dimanche 25 mars 2012

تقويم الشخصية وقياسها




لقيت الشخصية في الدراسات السيكولوجية ما لقيه الذكاء والقدرات العقلية. فقد تضاربت الآراء حول منشئها وطبيعتها وبنيتها، وتباينت طرائق وأساليب وصفها وتقويمها. ومع أن أدبيات علم نفس الشخصية تختزل هذا الوضع، وتتحدث عن نظرية الأنماط ونظرية السمات، فإن قراءة سريعة للتاريخ القصير لهذا العلم تضع الباحث أمام عدد عديد من النظريات التي تنضوي تحت اسم الأنماط، ومثلها مما ينضوي تحت اسم السمات. ولعل ما يجمع بين نظريات الأنماط هو المدخل التركيبي للشخصية ومحاولة تقسيم الناس إلى فئات تتميز كل واحدة منها بعدد من الخصائص أو السمات التي يؤلّف وجودها مجتمعة، ولو بدرجات متفاوتة، نمطاً معيناً. بينما تشترك نظريات السمات في المدخل التحليلي للشخصية ومحاولة وضع قائمة بالسمات التي تتكون منها الشخصية. ويؤدي تفاوت مستوى وجودها عند الناس إلى اختلافهم وتنوعهم.

1-نظريات الأنماط.

واصل علماء النفس في هذا القرن، كل من موقعه، العمل الذي قام به أسلافهم في القرن الماضي لتطوير فكرة هيبوقريطس حول تقسيم البشر إلى أنماط، فعلى أساس مراحل تطور الغريزة الجنسية قسم فرويد الشخصية إلى ثلاثة أنماط:
-الشخصية الفمية: ويغلب على سلوك صاحبها الاعتماد على الآخرين والخمول والتشاؤم والحنين إلى مرحلة الحضانة.
-الشخصية الشرجية: وتتميز بحب النظافة والنظام، ويميل صاحبها إلى البخل والعناد.
الشخصية القضيبية: ويعرف صاحبها بنرجسيته وطموحه غير الواقعي الذي يجعله عرضة للإحباطات المستمرة.
وللتحقق من وجود هذه الأنماط وتوزع الناس عليها صمم كراوت KROUT وتابين TABIN رائزاً، وطبقاه على عينة من طلبة الجامعة. وجاءت النتائج مخيبة لآمال الفرويديين. فقد أسفر تحليل استجابات المفحوصين عن وجود ارتباط ضعيف بين الخصائص النفسية داخل النمط الواحد.
وقسم يونغ البشر إلى نمطين: انطوائيين وانبساطيين. فالإنسان المنطوي ينزع إلى العزلة والانكفاء على ذاته. والإنسان المنبسط يميل إلى مخالطة الآخرين ومعاشرتهم. وفيما بعد طور يونغ تصنيفه هذا معتمداً على ما تؤديه النفس الإنسانية من وظائف. وتنحصر هذه الوظائف في التفكير والحس والحدس والوجدان. فوجد أن كلاً من المنطوي والمنبسط يمكن أن يكون مفكراً أو حسياً أو حدسياً أو وجدانياً. فالمنطوي –المفكر يهتم بالحقائق النظرية والمثل خلافاً للمنبسط – المفكر الذي يهتم بالحقائق الموضوعية المحسوسة. وتمثل شخصية الفيلسوف النمط الأول. بينما يمثل عالم الطبيعة النمط الثاني.
والمنطوي –الحسي يصبغ العالم الخارجي بصبغة الذاتية، ويخلع عليه ألواناً خاصة من وحي نزواته ونزعته إلى اللذة. وهذا النمط هو نقيض النمط المنبسط – الحسي الذي يتميز بالواقعية.
وهناك المنطوي – الحدسي الذي يبتعد بفكره وعمله عن الواقع، على العكس من المنبسط- الحدسي الذي يتميز بالنشاط العملي والاجتماعي. ويمثل الفنان ورجل الدين النمط المنطوي- الحدسي. في حين يمثل رجل الأعمال والمصلح الاجتماعي والصحفي والسياسي النمط المنبسط- الحدسي.
أما المنطوي –الوجداني فهو إنسان سريع الانفعال، متقلب المزاج، متأجج العاطفة، كثير الأحلام. ويقابله المنبسط- الوجداني الذي يسيطر عليه الشعور بالواجب تجاه الآخرين ومراعاة التقاليد الاجتماعية.
ويتفق رورشاخ مع يونغ في تقسيم الناس إلى فئة المنطوين وفئة المنبسطين. ويعرف المنطوي بأنه إنسان ذو ذكاء عال، وقدرة على الإبداع والابتكار، وانفعال ثابت. ويعاني من صعوبات في إيجاد قنوات اتصال بالغير. والمنبسط –عنده- هو شخص يمتاز بذكاء عادي، ومهارات حركية عالية، وانفعال متغير، وشعور لين، ومرونة كافية.
ويميز هـ. آيزينك H. EYSENCK ثلاثة أبعاد للشخصية يؤلف كل منها نمطاً محدداً. وهذه الأنماط هي: الانطواء- الانبساط، والعصاب(الاستعداد للمرض العصابي) والذهان(الاستعداد للمرض الذهاني). ثم أضاف إليها ثلاثة أبعاد أخرى أقل تأثيراً وانتشاراً، وهي : المحافظة-الراديكالية، والبساطة – التعقيد- والصلابة- الليونة.
وإلى جانب التأكيد على توزيع الناس وفق هذه الأبعاد يشير آيزينك إلى وجودها معاً بوصفها سمات أصيلة للشخصية. ومن هنا فإن الفرد يوجد، بالنسبة لآيزينك، في نقطة ما على أي بعد من الأبعاد الثلاثة. فوجوده على البعد الأول أو بالقرب منه، مثلاً، يجعله من أصحاب النمط الذي يقابله. إلا أن هذا لا ينفي وجود البعدين الاخرين لديه مهما كان بعده عنهما، ولهذا يقر آيزينك أن الاختلاف بين المرضى(العصابيين أو الذهانيين) والأسوياء، إنما هو اختلاف في الدرجة وليس في النوع.
ولعل من الواضح أن التصنيفات السابقة تقوم على البعد النفسي. وهي وحدها، لا تغطي نظريات الأنماط، ولا تقدم نماذج كافية عنها. فإلى جانبها توجد تصنيفات أخرى ذات بعد جسمي. ويطلق على الدراسات التي تناولت هذا البعد اسم "علم النفس الجبلي CONSTITUTIONAL PSYCHOLOGY". ويعتبر إرنست كرتشمر E.KRETSCHMER(1888-1964م) من أبرز علماء القرن العشرين الذين تبنوا فكرة العوامل الجسمية وأثرها في تكوين الشخصية.
قام كرتشمر بقياس الأبعاد الجسمية للمرضى العقليين. ولدى دراسة ما جمعه من معطيات لاحظ أن التكوينات الجسمية للناس تنحصر في أربعة أنماط، هي:
-النمط الهزلي أو النحيل(الطويل والرفيع) ASTHNIC
-النمط البدين أو السمين(الممتلئ) PYKNIC
-النمط الرياضي(العضلي القوي) ATHLETIC
-النمط المختلط(غير المتناسق) DYSPLASTIC
كما وجد أن لكل نمط من هذه الأنماط صفاته النفسية التي تميزه عن الأنماط الأخرى. فالنحيل يكون عرضة لمرض الفصام. والبدين غالباً ما يصاب بالذهان الهوسي- الاكتئابي. وقد عرض كرتشمر آراءه عام 1925 في كتاب تحت اسم "الجسم والمزاج PHYSIQUE AND CHARACTER".
وبعد مضي خمسة عشر عاماً من صدور كتاب كرتشمر نشر وليم شلدون W.SHELDON  نتائج دراسته للعلاقة الارتباطية بين الخصائص الجسمية والسمات النفسية(SHELDON, 1940). ثم أردفه بعمل آخر في نفس الموضوع(SHELDON, 1942).
وخلافاً لكرتشمر وجد شلدون أن الخصائص التي تتمتع بها الشخصية توجد لدى الناس بدرجات متفاوتة. ولذا فإن من الخطأ، في رأيه، تقسيم الناس إلى أنماط مستقل بعضها عن بعض.
بدأ شلدون عمله بالتقاط ثلاثة صور فوتوغرافية(أمامية وخلفية وجانبية) لكل فرد وهو عارٍ. وعند مطابقة هذه الصور بعضها مع بعض لاحظ وجود ثلاثة أبعاد جسمية. ووفقاً لهذه الأبعاد ينقسم الناس إلى ثلاثة أنماط، هي:
-النمط الهضمي: ويتميز بالسمنة وامتلاء البطن.
-النمط العضلي: ويتمتع الفرد الذي ينتمي إليه بعضلات بارزة وعظام خشنة.
-النمط العصبي: ويكون صاحبه ذا جسم نحيل.
ويتحدد النمط الذي ينتمي إليه الفرد على أساس درجاته في كل مقياس من المقاييس الثلاثة التي أعدها شلدون. ويتألف المقياس من سبع درجات فإذا حصل الفرد على 6 درجات في المقياس الأول(النمط الهضمي) ودرجتين في المقياس الثاني(النمط العضلي) ودرجة واحدة في المقياس الثالث(النمط العصبي) اعتبر من النمط الهضمي. وإذا تساوت درجاته في المقاييس الثلاثة صنف مع الأشخاص المتوازنين.
وهكذا أحصى شلدون 765 نمطاً جسمياً يتوزع الناس عليها، ويختلفون في سماتهم النفسية تبعاً لها.
وبالرغم من أن شلدون اعترف خلال عرض نظريته بدور الثقافة في تكوين الشخصية، فإنه كان حريصاً دوماً على إبراز أثر الخصائص الجسمية التي يرثها الفرد في حياته النفسية. ولقد تجلى ذلك بوضوح في تقسيمه الناس حسب أمزجتهم إلى ثلاثة أنماط، هي:
-النمط الهضمي أو الحشوي VISCEROTONIA وينفق من ينتمي إليه شطراً هاماً من نشاطه بحثاً عن إشباع حاجاته إلى الأكل والشراب واللهو والراحة والمرح والاسترخاء ومعاشرة الآخرين.
- النمط العضلي SOMATIONA ويتمتع صاحبه بالحيوية والنشاط والصراحة والاندفاع والقوة وحب المغامرة والسيطرة والخوف من الوحدة والأماكن المغلقة.
- النمط العصبي أو المخي CEREBROTONIA ويتصف صاحبه بالجدية والتحفظ وسرعة الاستجابة والذكاء والخوف من الآخرين ومن الأماكن الواسعة والقلق والعزلة وقلة النوم.
إن من الإنصاف الاعتراف بفضل نظريات الأنماط على علم النفس بصورة عامة، وعلم نفس الشخصية بصورة خاصة. فقد حفزت النتائج التي توصل إليها أصحاب هذه النظريات الكثير من الباحثين لإجراء المزيد من البحوث بهدف الوقوف على مدى صحتها. كما وجهت الأنظار نحو عدد من الجوانب التي يتكون منها الوعي الإنساني وتدخل في صلب الشخصية باعتبارها المهمة المركزية لعلم النفس. ونبهت الأذهان إلى ضرورة التسلح بالأدوات والوسائل الأكثر موضوعية للاضطلاع بتلك المهمة.
وليس من باب الغلو أو المبالغة القول بأن ظهور نظريات السمات هو أحد الإسهامات التي قدمتها نظريات الأنماط دونما قصد أو نية من جانب أي ممثل أو نصير لها. وتم ذلك عبر محاولات اختبار صحتها وموضوعيتها. فقد بينت بعض الدراسات التي استخدمت التحليل العاملي ضعف الارتباط بين خصائص الجسم وسمات النفس التي تميز كل نمط من الأنماط التي ذكرها مؤسسو علم النفس الجبلي. وكشفت دراسات أخرى في نفس الوقت عن وجود علاقات قوية بين بعض سمات نمط من الأنماط ونظائرها من نمط آخر. ولم تسلم من هذا النقص حتى النظريات التي استندت في بنائها على التحليل العاملي كنظرية آيزينك. فما أخذه النقاد عليها هو ضعف معامل صدق أدوات القياس المطبقة، وعجزها عن تحديد السمات التي صممت أصلاً لقياسها، وعدم قدرتها على الإحاطة بكافة عناصرها، وصغر حجم العينات، وضيق دائرة الفئات الاجتماعية التي تمثلها. والحق أن ممثلي نظريات السمات كانوا أكثر نشاطاً، ومن خلال نشاطهم كانوا يسعون إلى تفادي مثل هذه الأخطاء.

2-نظريات السمات:

عارض أنصار نظريات السمات فكرة تقرير مصير الفرد بأن يختم بنمط من الأنماط وتختزل شخصيته ببعض السمات. واعتقدوا أن الشخصية تتألف من مجموعة كبيرة نسبياً من الصفات أو السمات، وأن الفروق الفردية بين الناس إنما تعود إلى تفاوت حظوظهم منها.
ويجمع هؤلاء على أن السمة هي الوحدة الرئيسية للشخصية. وهم يعرفونها بأنها استعداد مسبق أو ميل محدد للاستجابة. ومن هذا المنطلق راحوا يبحثون عن شبكة السمات التي تتكون منها الشخصية. فقد وضع ألبورت وهـ. أودبرت H.ODBERT عام 1936 قائمة تتضمن 4541 كلمة تستعمل في اللغة الإنكليزية لوصف الشخصية. ورصد بيرت السمات الجسمية والنفسية والاجتماعية. ووجد أن السمات الجسمية تصف حالة الجسم ونواحي القدرة أو العجز فيه، وأن السمات النفسية تدل على الجوانب المعرفية والمزاجية، الموروثة والمكتسبة.
فالسمات المعرفية الموروثة تشمل الذكاء والاستعدادات الخاصة. والسمات المعرفية المكتسبة تتضمن المهارات الخاصة. والسمات المزاجية الموروثة تعكس الانفعالات العامة والنماذج المزاجية الخاصة. والسمات المزاجية المكتسبة تجسد الاتجاهات والميول والعادات. أما السمات الاجتماعية فتتناول الوضع الاقتصادي للأسرة، والظروف المنزلية الطبيعية، والعلاقات الأسرية والاجتماعية، ونوع العمل، وأساليب قضاء أوقات الفراغ.
وعمل كاتل على تخفيض قائمة السمات إلى أقل عدد ممكن ليتيسر استخدام طريقة التحليل العاملي في معالجتها. وبذل في هذا السبيل جهوداً ضخمة تُوجتّ بتصميم "استبيان الشخصية للراشدين"(16.P.F)(لازاروس، 1984، 61، 62). ويحتوي هذا الاستبيان على عدد كبير من البنود لقياس 16 سمة اعتقد أنها كافية لتوصيف الشخصية. وتتمثل هذه السمات في:
العامل أ A
السيكلوثيميا
مقابل
الشيزوثيميا

الاجتماعي
مقابل
العنيد
العامل ب B
الذكاء العام
مقابل
الضعف العقلي
العامل ج C
الثبات الانفعالي أو قوة الأنا
مقابل
عدم الاتزان الانفعالي
العامل د E
السيطرة
مقابل
الخضوع
العامل هـ F
غير الجاد
مقابل
الجاد أو القلق الاكتثابي
العامل وG
قوة الخلق
مقابل
ضعف المعايير الداخلية
العامل ز H
سهل التكيف تلقائاً وفقاً لتغير طارئ
مقابل
الانعزالي الشيزوثيمي المتأصل
العامل ح I
الحساسية الانفعالية
مقابل
الحساسية ضد الصلابة
العامل ط L
الشيزوثيميا البارانوية
مقابل
الغيرية المفعمة بالثقة
العامل ي M
عدم المبالاة
مقابل
الاهتمام العملي
العامل ك N
الحذلقة
مقابل
البساطة

السرعة والكفاية والواقعية
مقابل
الغموض والعاطفية والعجز عن ضبط النفس
العامل ل O
عدم الطمأنينة والقلق
مقابل
رباطة الجأش والثقة بالنفس
العامل م Q
التحرر
مقابل
المحافظة
العامل ن Q2
الاكتفاء الذاتي
مقابل
الافتقار إلى الثبات والتصميم على أمرٍ ما
العامل س Q3
ضبط الإرادة وثبات الخلق


العامل ع Q4
التوتر العصبي


ومن خلال هذا العرض الموجز لآراء أبرز ممثلي اتجاه السمات في دراسة الشخصية يبدو واضحاً غياب الاتفاق ليس على عدد السمات فقط، بل وعلى طبيعة السمة وحدودها. فبينما يدرج كاتل الدوافع ضمن قائمة السمات، يؤكد موري وماكليلاند على ضرورة التفريق بينهما. وفي الوقت الذي يضيف فيه بيرت الصفات الجسمية إلى سمات الشخصية، يقرنها كاتل بالسمات المزاجية، ويستبعدها موري من مخططه تماماً. ويكمن مصدر هذا الاختلاف في الزاوية التي ينظر كل عالم من خلالها إلى الشخصية، والطريقة التي يتبعها في معالجتها. يقول لازاروس: "وقد عالج واضعو نظريات السمات موضوع تحديد قوائم السمات بطرق مختلفة". حيث كانت "كل نظرية منها تصنع مصطلحاتها الخاصة لتصور بها شخصاً بعينه أو الناس عامة"(المرجع السابق، 54-55).
ولئن كان لنظريات السمات الفضل في تزويد الباحثين بإمكانية قياس الشخصية واستخدام الأدوات الموضوعية في ذلك، فإن اختلافهما فيما بينها وقصورها عن وضع قائمة جامعة وشاملة لكافة سمات الشخصية وجوانبها انعكسا بشكل مباشر على تلك الأدوات، وقللا من قدرتها على تقديم وصف كاف للشخصية، وحالا دون الوقوف على العلاقات الدينامية المتغيرة بين سماتها وموقع كل سمة منها بالنسبة للسمات الأخرى.
لقد أفاد الباحثون في بحثهم عن أدوات موضوعية لدراسة الشخصية من الاستبيانات والاستمارات التي وضعها ستانلي هول وودورث. فخلال الحرب العالمية الأولى صاغ ودورث مجموعة من الأسئلة عرفت باستمارة البيانات الشخصية. ويعد المؤرخون هذه الاستمارة بمثابة الجد الأكبر لكل الاختبارات والاستبيانات التي ظهرت فيما بعد لقياس السمات النفسية. وعلى امتداد هذه الفترة الزمنية واجه العلماء وما زالوا يواجهون صعوبات جمة في تصميم أدوات قياس الشخصية. فزيادة على صعوبات الوصول إلى درجة عالية من الصدق والثبات، وصعوبة الإحاطة بجميع السمات ثمة صعوبتان تتعلقان بعملية الأداة من جهة، وباستجابات المفحوصين من جهة ثانية.
وتتجلى الصعوبة الأولى في سيطرة النزعة الذاتية للباحث عند وضع الأداة وصياغة عباراتها أو أسئلتها، مما يجعلها وكأنها موجهة إليه. وتبرز الصعوبة الثانية في نزعة المفحوص إلى الظهور بمظهر المقبول اجتماعياً. وهذا ما يتبدى في اختياره للاستجابات التي تتماشى مع القيم والمعايير الاجتماعية. ذلك لأن استبيانات الشخصية تختلف عن روائز الذكاء والقدرات العقلية والتحصيل الدراسي في أن الإجابة على بنودها لا تحتمل الخطأ والصواب. فهي تسعى للحصول على رأي المفحوص في موقف معين كأن يجيب بـ "نعم" أو "لا" عما إذا كان يشعر بوجود من يحاول إيذاءه، أو إذا كان يخشى الإصابة بمرض عقلي أو إذا كان يحس بالضيق أثناء وجوده في مكان مغلق.. إلخ، أو كأن يختار إحدى الإجابات المقترحة التي تتفق أكثر من غيرها مع مشاعره.
وتبعاً لمحتوى الاستبيان وهدفه تقسم الاستبيانات إلى:

1-استبيانات أحادية السمة

أي الاستبيانات التي تقيس سمة واحدة فقط. ومن أمثلتها استبيان جوخ لقياس المسؤولية الاجتماعية، واستبيان تايلور لقياس القلق الظاهري، واستبيان لارد لقياس القدرة على تحمل المسؤولية ويقتضي بناء هذا النوع من الاستبيانات تحليل السمة إلى عناصرها، ووضع العبارات أو الأسئلة التي تغطيها. وللمثال فقد وجد تايلور أن عناصر القلق الظاهري تتمثل في الجوانب العضوية أو الفيزيولوجية(برودة الكفين والقدمين، تصبب العرق البارد، المغص، سرعة نبضات القلب، الإحساس الدائم بما يشبه الجوع، فقدان الشهية، عسر الهضم والإسهال) والجوانب النفسية(الشعور بالخوف من المجهول، الأرق بسبب التفكير في موضوعات معينة، عدم القدرة على البقاء مدة طويلة في مكان واحد).

2-استبيانات متعددة السمات

وهي الاستبيانات التي تقيس عدة سمات في وقت واحد. ويعتبر اختبار مينيسوتا المتعدد الأوجه للشخصية(MMPI) الذي صممه هاثاواي وماكينلي أحد الأمثلة البارزة على هذا النوع من الأدوات. ولهذا الاختبار أكثر من صورة. وتتألف الصورة الأكثر انتشاراً من 550 بنداً تقيس توهم المرض، والميول الهستيرية، والانحراف النفسي المرضي، والهبوط النفسي، والاكتئاب، والفصام، والذكورة والأنوثة، والحاجة إلى الانتماء، والحاجة إلى النظام وغيرها من الظواهر النفسية. والمثال الثاني على هذا النوع من الاستبيانات هو اختبار كاليفورنيا النفسي(CPI) الذي يحتوي على 480 بنداً أعدت بنفس الطريقة التي اعد بها الاختبار السابق. ويقيس مجموعة من الخصائص النفسية، كالقدرة على تحمل المسؤولية، والتسامح، وضبط النفس، والسيطرة، والقدرة الاجتماعية، والدور الاجتماعي، وتقبل الذات، والانتماء، والاعتماد على النفس. ويندرج استبيان كاتل الذي ذكرناه منذ قليل ضمن هذا النوع. ويتألف هذا الاستبيان من 187 بنداً يغطي كل 10-13 منها سمة نفسية. كما يندرج في هذا النوع من الأدوات كل من استبيان جيلفورد وتسمرمان، واختبار موزلي للشخصية
(
MPI)، واختبار إ. إدواردز A.EDWARDS، وقائمة بحوث الشخصية
(PRE).

3- استبيانات مركبة

ويقيس البند الواحد فيها أكثر من سمة، كما هو الحال في استبيان بيرنرويتر BERNRUETER الذي صمم لقياس ست سمات، هي: الميول العصابية، والانطواء، والتسلط، والثقة بالنفس، والاعتماد على الذات، والغيرية. ويحتوي هذا الاستبيان على 125 بنداً، كل واحد منها يقيس السمات المذكورة من خلال الاستجابات الثلاثة المقترحة(نعم، لا، لا أدري). وعلى أساس الأسلوب الذي يتعين على المفحوص اتباعه في التعامل مع الأداة والإجابة على بنودها يمكن الحديث عن:
1- استبيانات بسيطة الاختيار. ومنها يطلب من المفحوص أن يختار إجابة واحدة من إجابتين مقترحتين على كل بند من بنوده "نعم" أو "لا"، "صحيح" أو "خطأ".
2- استبيانات متعددة الاختيار. ويطلب من المفحوص في هذا النوع أن يختار إجابة واحدة من عدة إجابات(3-5 إجابات) مقترحة على كل بند من البنود.
3- استبيانات قهرية الاختيار. وقد ظهر هذا النوع في أواسط الخمسينيات، حين صمم إدواردز مقياس التفضيل الشخصي بغية التخفيف من ذاتية المفحوص. فعرض بنوده على شكل ثنائيات، وطلب من المفحوص أن يفاضل بين عبارتي كل ثنائية ويختار واحدة منهما.
وخلال هذا التاريخ القصير لقياس الشخصية بنيت عشرات الآلاف من الاستبيانات والاختبارات. ولقد كان لاستخدامها وانتشارها آثار إيجابية في ميادين الصحة النفسية والتعليم والصناعة والشؤون الإدارية والعسكرية وغيرها. وما زال أمام العلماء الكثير مما يتوجب عليهم عمله سواء على الصعيد النظري(تحديد سمات الشخصية في حركتها الدائمة) أو على الصعيد العملي(تطوير تقنيات البحث وأدواته).
وإلى جانب طريقة الاستبيانات والاختبارات تستخدم طرق أخرى في قياس الشخصية، كالمقابلة وتاريخ الشخص والإسقاط. وتلعب المقابلة بنوعيها وتاريخ الشخص الذي يتم الحصول عليه بمختلف الوسائل والأساليب دوراً هاماً في جمع المعلومات والبيانات التي، إذا ما أضيفت إلى ما تقدمه الاستبيانات والاختبارات، تمكن الباحث من الوصول إلى أحكام موضوعية نسبياً بشأن الشخصية، وتساعد في اتخاذ القرارات المناسبة.
أما الإسقاط فإنه يمثل طريقة رئيسية في تقويم الشخصية. وعلى الرغم من قلة الروائز الإسقاطية، فإنها تستخدم على نطاق واسع. ويقوم الرائز الإسقاطي على فكرة أن الإنسان يعبر عن عالمه الداخلي(ميوله ونزعاته ومشاعره وتصوراته) في المواقف الحياتية الغامضة بصورة غير واعية. فالتفسير الذي يعطيه للغيوم الزاحفة في الفضاء، أو لظل القبعة أو المعطف المرتسم على جدار الغرفة، أو لبقعة سائل ملون على قطعة قماش أو ورقة يعكس شيئاً مما في نفسه، أي أنه يسقط ما في ذاته على الموضوعات الخارجية. ومن هذا المنطلق تتحول مهمة الفاحص لدى تطبيق الرائز الإسقاطي إلى وضع المفحوص أمام منبهات غامضة، ومطالبته بوصفها وتفسيرها.
ولعل أول من وضع هذه الفكرة موضع التنفيذ(*) هو الطبيب النفسي السويسري هرمان رورشاخ H.RORSCHACH(1884-1922م). فقد اقترح رائزاً مؤلفاً من عشر بطاقات، تحوي كل منها زوجين متقابلين من بقع الحبر المختلفة الأشكال والألوان، تمّ انتقاؤها من بين آلاف البقع التي أخضعت للدراسة التجريبية. وعندما ننظر إلى هذه البقع، فإننا نرى فيها ما يناسب خيال كلّ منا وتصوراته ونزعاته ومزاجه دون أن نعي ذلك مباشرة أو نجد
تفسيراً له.
وفي هذا الرائز يتمّ التركيز أثناء عملية التصحيح وتقدير استجابات المفحوص على موقع تلك الاستجابات وحجمها في البطاقات. فالاستجابة إما أن تشمل البطاقة كلها، أو أنها تقتصر على جزء(أو أجزاء) منها. وبصورة أوضح فإن على الفاحص أن يولي اهتمامه عند تصحيح استجابات مفحوصيه الجوانب التالية:
- عوامل تحديد الاستجابات. وتشمل الشكل واللون والظلال والحركة. فالاستجابة تتجه نحو أحدها أو بعضها أو جميعها.
- مضمون الاستجابات. ويقصد بذلك ما يراه المفحوص في البطاقة. فقد يرى أن البقعة تمثل إنساناً أو حيواناً أو نباتاً أو جماداً أو منظراً طبيعياً.
- مدى اتفاق الاستجابات مع ما هو شائع ومألوف.
إن عملية تسجيل استجابات المفحوصين وتحليلها وتفسيرها ليست بالأمر اليسير. وهي تتطلب مهارة عالية وخبرة طويلة. وبالعودة إلى النتائج التي توصل إليها العاملون في علم النفس العيادي بوجه خاص، ومقارنتها بعضها ببعض تبين أنها لم ترق إلى المستوى المأمول من الدقة والثبات والتشابه.
وهذا ما حدا بالبعض إلى القول بعجز هذا الرائز عن إثبات قدرته على "… كشف أسرار الشخصية بالطريقة التي كان يظنها أكثر المتحمسين له"(تايلر، 1985، 121).
ولتجاوز هذا الضعف وسد الثغرات التي كشف عنها المختصون أجرى هولتزمان HOLTZMAN عام 1961 بعض التعديلات عليه. وصار يعرف باسم "رائز بقع الحبر لهولتزمان".
وهناك رائز إسقاطي آخر لا يقل شهرة ونفوذاً عن رائز رورشاوخ الأصلي أو المعدل، وهو رائز تفهم الموضوع(TAT) THEMATIC APPERCEPTION TEST. ويضم هذا الرائز مجموعة من الصور التي تمثل أشخاصاً في مواقف حياتية يشوبها نوع من الغموض(20 صورة). وتعرض هذه الصور الواحدة تلو الأخرى. ويطلب من المفحوص أن يؤلف قصة حول موضوع الصورة، يحكي من خلالها نوع العلاقات التي تربط بين أشخاصها، ويصف مشاعرهم وأفكارهم، ويستعرض الأحداث التي أدت إلى الموقف الذي تظهره الصورة.
ويعتقد موري مصمم أول رائز من هذا النوع ومن حذا حذوه أن المفحوص يتماهى أو يتوحد مع بطل قصته الذي يحدده في الصورة منذ البداية. ولهذا فهو عندما يسرد تفاصيل القصة فإنه يعكس مشاعره وأفكاره الذاتية. وليس على الفاحص، والحالة هذه، إلا أن يعود إلى القصة التي نسجها المفحوص ليدرس تفاصيلها بعناية، ويكون على أساسها ملمح شخصيته.
ويعد رائز إتمام الجمل الناقصة، ورائز إكمال الصور الناقصة، ورائز تداعي الكلمات أمثلة على الطريقة الإسقاطية. وهذه الروائز لا تزال تحظى باهتمام الباحثين والاختصاصيين في العيادات النفسية ومراكز التوجيه والمؤسسات التربوية والتعليمية وغيرها. وهي وإن اختلفت في جوانبها الإجرائية، فإنها تتفق فيما بينها، كما تتفق مع الروائز الإسقاطية الأخرى، حول إمكانية تقدير سمات الشخصية عن طريق استجابات المفحوصين التي تعكس أحوالهم النفسية بصورة غير مباشرة ودونما وعي من جانبهم.
وبمقارنة الطريقة الإسقاطية بطريقة الاستبيان نجد أنها تحد من ميل المفحوص إلى تقديم انطباع أو صورة إيجابية عن ذاته، وتوفر قدراً أكبر من الحرية له. ولكن التطور الذي عرفه العالم على مختلف الأصعدة وفي مختلف الميادين أفقد هذه الطريقة الكثير من مزاياها. ونقصد بهذا الكلام زيادة مستوى وعي  الفرد ومعارفه المتعلقة بوضعه وبأحواله النفسية والأساليب التي يتبعها الاختصاصيون في دراستها، ولا سيما الروائز الإسقاطية. فمع انتشار هذه الأدوات أصبحت تقنياتها وأهدافها معروفة في صفوف المتعلمين من غير المشتغلين في علم النفس.
إن معرفة المفحوص بأهداف الرائز وتقنياته معرفة كلية أو جزئية، سليمة أو مشوهة، تدفعه إلى توجيه استجاباته على نحو واع يبعد نتائج البحث عن الموضوعية. ولقد دللت على ذلك دراسات عديدة، منها دراسة إديث هنري E.HENRY وجوليان روتر J.ROTTER. ففي هذه الدراسة التي أجريت عام 1956 طبق رائز رورشاخ على 30 طالبة جامعية قسمت إلى عينة ضابطة، وأخرى تجريبية. وقد تلقت العينتان تعليمات متماثلة باستثناء جملة واحدة لتذكير أفراد العينة التجريبية باستخدام الرائز في مجال الطب النفسي والكشف عن الاضطرابات الانفعالية. فجاءت النتائج لتبرز فروقاً نوعية في استجابات أفراد العينتين، إذ لم يتجاوز متوسط استجابات الفرد في العينة التجريبية 16. بينما وصل متوسط استجابات الفرد في العينة الضابطة إلى 23. الأمر الذي يدل على "أن المفحوصين في المجموعة التجريبية كانوا أكثر عناية في انتقاء الاستجابات التي تحتويها البقع، والتي كان الشكل فيها واضحاً"(روتر، 1985، 125).
إن ما قلناه عن تعقد بنية الشخصية وتعدد أبعادها، ونقائص أدوات قياسها يحملنا على الاعتقاد بأن الطريق ما زال طويلاً لتقديم وصف موضوعي ودقيق، حتى لا نقول تقييماً درجيا للشخصية. ولا شك في أن الجمع بين عدة طرق في دراسة واحدة يعزز ثقة الباحث بما يجمعه من بيانات ومعطيات، ويضفي على تحليله لها، وعلى ما يخلص إليه من استنتاجات طابعاً علمياً.


* يعتبر الإيطالي بوتشيلي(1440-1510) أول من أعطى البقع واللطخات بعداً نفسياً. ثم جاء الفنان الشهير ليوناردو دافنشي(1452-1519). فوجه انتباه الرسامين إلى البقع واللطخات التي قد تتركها ريشهم صدفة، ونصحهم بضرورة إزالتها تجنباً لأي تفسير أو إيحاء يقود إليه وجودها لدى الآخرين. وفي عام 1857 قام الطبيب الألماني أوستين كيرنر بوضع قائمة بأشكال البقع التي تثير لدى الإنسان الحزن والكآبة.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire