dimanche 25 mars 2012

لمحة عن الفروق الفردية بين الناس وظهور القياس النفس



لقد كانت ولادة علم النفس داخل مخابر العلوم الطبيعية والطب، وأن العلم الجديد نقل عن تلك العلوم مناهجها وطرائقها في البحث. فاستخدم الباحث النفسي طريقة الملاحظة العلمية التي تبدأ بتحديد موضوع الدراسة بدقة كافية، للانطلاق، من ثم، إلى تتبع عناصره بصورة مستمرة ومنتظمة، والقيام، أخيراً، بمعالجة المعطيات واستخلاص النتائج. كما أخذ بمنهج التجريب، وسخر الأجهزة والأدوات اللازمة لدراسة الظواهر النفسية. وعلاوة على ذلك أولى عناية خاصة بتطوير الوسائل والتقنيات المستعملة في هذا المنهج بقصد تكييفها مع خصوصية موضوعات علمه.
وإلى جانب الدعوات المتكررة إلى العمل على بلورة منهج الملاحظة الذاتية باعتباره المنهج الوحيد الذي يصلح لدراسة الوعي، جرت محاولات عديدة لوضع طرائق تجعل من علم النفس علماً موضوعياً قادراً على أن يتبوأ موقعاً جيداً بين العلوم الأخرى. وتمثلت تلك المحاولات في أعمال رواد علم النفس، أمثال غالتون وابنغهاوس وستانلي هول وبينيه. فتمكنت هذه الأعمال من إرساء القواعد الأولى للقياس النفسي، وبناء المقاييس والروائز والاختبارات والاستبيانات.
وبصرف النظر عن اختلاف العلماء في منطلقاتهم الفكرية، فإنهم يجمعون على وجود فروق بين الناس من حيث قدراتهم وطبائعهم ودوافعهم وأمزجتهم واستعداداتهم وانفعالاتهم، مما حدا بهم إلى استخدام المناهج  العلمية والبحث عن الطرائق والتقنيات التي تمكنهم من الوقوف على حجم هذه الظاهرة أو تلك عند مجموعة من الأفراد ومدى تفاوتهم فيها.
وما دام الهدف النهائي من النشاط العلمي السيكولوجي هو ربط المعارف السيكولوجية بالحياة، والارتقاء بمستوى الوعي الفردي والجماعي، فإن الكشف عن الفروق بين الناس في شتى الجوانب النفسية، وأسباب تلك الفروق هو مهمة المشتغلين في علم النفس كافة. ولقد حفزت هذه الحقيقة العلماء والباحثين إلى العمل، كل من موقعه الفكري، من أجل توفير الوسائل والأدوات اللازمة لقياس الظواهر النفسية التي اتخذوا منها مادة لدراساتهم. واستطاعوا خلال هذا القرن أن يعدوا آلاف الروائز والاختبارات والاستبيانات لقياس الذكاء والقدرات العقلية والاتجاهات والميول والتحصيل الدراسي وخصائص الشخصية المختلفة. وقبل الحديث عن أدوات القياس ومراحل تطورها يجدر بنا أن نتوقف قليلاً عند أهم مبادئ القياس النفسي ومقوماته ومستوياته.
ينطلق علماء النفس القياسي من مسلمات، أهمها أن النشاط النفسي يمكن تحديده وقياسه كمياً والتنبؤ بمراحله ونتائجه. وأن الاستجابة خاصية الفرد وهي تختلف من شخص إلى آخر. وبناء على ذلك فإن دراسة النشاط النفسي تتم عن طريق وضع نموذج(أو نماذج) له على صورة أسئلة أو ألغاز أو مشكلات تطرح على عينة من الأفراد. وتحدد الاستجابات التي يقدمها كل فرد من أفراد تلك العينة مستوى هذا النشاط عنده، وترتيبه بين أقرانه.
وتمر عملية القياس النفسي بمراحل متعددة، أولاها تحديد حجم وأبعاد الظاهرة المراد قياسها. وثانيتها وضع البنود التي يعتقد أنها تغطي تلك الأبعاد بأسلوب مناسب. والثالثة منها اختيار عينة استطلاعية لتطبق الأداة عليها بغية التعرف على موضوعية الأداة ومدى صلاحيتها. والرابعة تطبيق الأداة(بعد تعديلها- إذا تطلب الأمر- في ضوء الدراسة الاستطلاعية) على عينة الدراسة النهائية. والخامسة قيام الباحث بتصحيح استجابات أفراد العينة ومعالجة النتائج وتحليلها وتفسيرها وفقاً لطبيعة الدراسة وأهدافها وفرضياتها.
وتخضع كل مرحلة من المراحل المذكورة إلى قواعد دقيقة ينبغي احترامها إذا ما أريد للعمل القياسي أن يكون علمياً. ولا بأس أن نتعرض لأهم هذه القواعد بإيجاز.
إن تحديد حجم وأبعاد الظاهرة المراد قياسها يتطلب في المقام الأول تقديم تعريف عام، ثم تعريف إجرائي لها يستطيع الباحث أن يتلمس من خلاله مكونات تلك الظاهرة، فيعددها ويرتبها حسب أهميتها، ويعطي لكل منها وزنه.
ومن الواضح أن هذه الإجراءات تمثل البعد النظري في القياس النفسي. وهي تحتاج إلى معرفة واسعة وعميقة بقضايا النفس، ونظرة انتقادية تعكس القدرة على مقارنة وجهات النظر المختلفة وتحليلها والتمييز بينها.
وبما أن الخطوات التالية تبنى على أساس النظرة إلى النشاط النفسي من حيث طبيعته والعوامل التي تؤثر في نشأته وتطوره، فإننا نعتقد أن الاختلاف في الأدوات التي وضعها العلماء يرجع إلى تباين آرائهم حول نفس الموضوعات كما سنوضح بعد قليل.
ولتوفير حد أعلى من الموضوعية يتعين عرض مركبات الموضوع وأوزانها على الاختصاصيين وذوي الخبرة النظرية والميدانية لمعرفة آرائهم فيها وإغناء تصورات الباحث حولها.
وبعد ذلك يقترح الباحث البنود التي تتناسب في عددها مع الأوزان الممنوحة لكل عنصر، وتساير في صياغتها وتركيبها اللغوي مستوى المجموعة التي أعدت من أجلها الأداة. ومن المفيد جداً أن يتوجه الباحث بعمله، مرة أخرى إلى الخبراء في القياس النفسي ويأخذ بملاحظاتهم وانتقاداتهم.
وبعد وضع الأداة بصورتها الأولية يقوم الباحث بالتأكد من صلاحيتها وذلك عن طريق معرفة معامل ثباتها ومعامل صدقها.

أولاً: ثبات RELIABILITY الأداة:

ويقصد بالثبات قيام أفراد العينة بنفس الاستجابات أو إعطاء نفس الحلول، وبالتالي حصولهم على نفس الدرجات فيما لو طبقت عليهم الأداة أكثر من مرة، أياً كان الفاحص الذي يقوم بالتطبيق والظروف الخارجية التي تطبق فيها هذه الأداة. ويعني الثبات أيضاً وجود تناسق داخلي بين بنود الأداة. ويدل، أخيراً على أن تكون الأداة –النموذج قادرة على قياس الأداء الحقيقي للأفراد.
ويتحدد معامل ثبات أداة القياس بطرائق عديدة، أهمها:
1-إعادة تطبيق الأداة. وتشمل هذه الطريقة تطبيق الأداة نفسها على عينة واحدة مرتين مع فاصل زمني بينهما يحدده الباحث بدقة في ضوء الاعتبارات العلمية. ويحسب بعد ذلك معامل الارتباط بين درجات المفحوصين في التطبيقين. ويدل معامل الارتباط على درجة ثبات الأداة.
2-الصور المتكافئة. وتقتضي هذه الطريقة توفير أداتين متكافئتين أو صورتين متكافئتين للأداة. والمقصود بالتكافؤ هنا هو مساواة معاملات الارتباط بين البنود في الأداتين(أو في الصورتين) ومساواة المتوسط والانحراف المعياري لكل منهما. وبعد ذلك تطبق الأداتان(أو الصورتان) على عينة واحدة ويحسب معامل الارتباط بين درجات المفحوصين فيهما الذي هو معامل ثبات الأداة.
3-التجزئة النصفية. وتستدعي هذه الطريقة تقسيم الأداة إلى قسمين متساويين. كأن تؤلف الأرقام الفردية القسم الأول والأرقام الزوجية القسم الثاني، أو يضاف الربع الأول من الأداة إلى الربع الثالث فيشكلان القسم الأول، ويضاف الربع الثاني إلى الربع الرابع ليكونا القسم الثاني. ويطبق كل قسم(نصف) منهما كأداة واحدة. ثم يحسب معامل الارتباط بين درجات القسمين(النصفين). وبما أن معامل الارتباط هذا يشير إلى معامل ثبات نصف الأداة فقط، فإنه يتوجب تعديله وتصحيحه للحصول على معامل ثبات الأداة ككل. ويتمّ ذلك بتطبيق معادلات خاصة.
4-تحليل التباين. وتستخدم هذه الطريقة بشكل خاص لمعرفة دلالة الفرق بين أكثر من متوسطين(النسبة الفائية).

ثانياً- صدق VALIDITY الأداة.

والمقصود بالصدق في القياس النفسي هو أن تكون الأداة قادرة على قياس ما وضعت من أجل قياسه دون سواه، وأن تكون قادرة أيضاً على الكشف عن مختلف مستوياته وتجلياته لدى الأفراد من أكثرها قوة وبروزاً إلى أكثرها ضعفاً وضموراً. وعلى هذا فالأداة الصادقة هي الأداة التي تكون درجاتها موزعة توزعاً اعتدالياً. وللصدق أنواع، هي:
1-الصدق الافتراضي. وهذا النوع لا يؤخذ به لكونه يعتمد على رأي واضع الأداة في أنها تمثل النموذج الذي بفضله تقاس الظاهرة المعنية.
2-الصدق الظاهري ويعني تناسب الأداة معه مع ما تقيسه من جهة، ومع مستوى المجموعة التي تطبق عليها من جهة ثانية. ولذا فإن هذا النوع من الصدق يمس جانب الشكل من الأداة. فينظر في صياغة وحداتها، ومدى ارتباطها بالسمة أو القدرة التي تقيسها في ضوء تعريفها. ويتم التحقق منه عن طريق استطلاع آراء الاختصاصيين.
3-صدق المحتوى. ويدل على تمثيل بنود الأداة وعباراتها لعناصر الظاهرة المراد قياسها وعادة ما يتم الاعتماد في تحديد معامل هذا النوع من الصدق على ذوي الخبرة الميدانية.
4-الصدق التجريبي. وهو ما يعبر عنه بقوة الارتباط بين الأداة وأداة أخرى أثبتت التجربة صدقها. وتسمى هذه الأخيرة "المحك الخارجي".
5-الصدق التنبؤي. ويقصد به قدرة الأداة على التنبؤ بما سيكون عليه مستقبل استجابة الفرد في موقف معين(النجاح أو الإخفاق في الدراسة أو في مهنة معينة).
6-الصدق العاملي. ويمثّل بالعلاقة بين الأداة أو الأدوات(بطارية اختبارات) وبين محك خارجي(أو محكات خارجية). وللوقوف على مستوى هذه العلاقة تستخدم طريقة تحليل معاملات الارتباط بين تلك الأدوات التي تكشف عن العوامل التي أدت إليها.
7-الصدق الذاتي. ويجسد هذا النوع من الصدق العلاقة بين الثبات والصدق باعتماد على ما تقيسه الأداة بالفعل بعد التخلص من الأخطاء.
ولتعيين صدق الأداة ثمة طرق عديدة، منها:
1-آراء المحكمين. وهي طريقة تستخدم للتعرف على الصدق الظاهري وصدق المضمون. ويقتضي تطبيقها مراعاة جملة من التعليمات والشروط.
2-المحك الخارجي. وتستخدم هذه الطريقة لحساب معامل الصدق التجريبي للأداة وهي تستدعي تطبيق الأداة إلى جانب تطبيق محك خارجي على عينة الأفراد، وحساب معامل الارتباط بين درجات أفراد العينة في كل من الأداة والمحك الخارجي.
3-طريقة مقارنة الأطراف. وتهدف هذه الطريقة إلى معرفة ما إذا كان بمقدور الأداة التمييز بين أطراف ومستويات الظاهرة التي تقيسها. ويتطلب ذلك إجراء مقارنة بين درجات الثلث الأعلى ودرجات الثلث الأدنى من الأداة، ثمّ حساب الدلالة الإحصائية بين المتوسطين. أما إذا كان هناك محك خارجي، فإن المقارنة تتم بين درجات الثلث الأعلى من الأداة، وما يقابلها من المحك الخارجي، وبين درجات الثلث الأدنى من الأداة ونظيراتها من درجات المحك الخارجي. وتعتبر الأداة صادقة إذا كان الفرق بين متوسطي ثلثيهما الأعلى والأدنى دالاً إحصائياً، أو إذا كان الفرق بين متوسطي ثلثها الأعلى والثلث الأعلى من المحك، وبين متوسطي ثلثها الأدنى والثلث الذي يقابله من المحك غير دال  إحصائياً.
4-التحليل العاملي. وتقوم هذه الطريقة على حساب معاملات الارتباط بين مجموعة من الأدوات والمحكات الخارجية، وتحليل هذه المعاملات للتعرف على مقدار تشبع كل أداة بالعامل العام والعوامل الأخرى التي تشترك فيها مع الأدوات المتبقية.
إن صدق الأداة إذن، يتوقف على مقدار تشبعها بالعامل العام. فكلما كان هذا المقدار كبيراً كان الصدق عالياً.
ويتطلب وضع أو تكييف أداة القياس، زيادة على ما سبق، جملة من الإجراءات، كالتصحيح الإحصائي لأثر التخمين في الإجابة على أسئلة الأداة، وحساب معامل سهولة وصعوبة كل بند ودرجة ثباته وانحرافه المعياري وإعداد جداول المعايير.
لقد أشرنا في أماكن مختلفة إلى أن من بين العلماء فريقاً آثر استخدام مناهج وطرائق لا يستدعي تطبيقها ومعالجة نتائجها القيام بالإجراءات واستعمال الوسائل التي فرغنا من الحديث عنها للتو. وحجة هذا الفريق هي أن القياس يهدف بالدرجة الأولى إلى إعطاء تقدير كمي للظاهرة النفسية من خلال معرفة ما هو موجود وما هو غير موجود منها عند الفرد في لحظة معينة على أساس ما تظهره أداة القياس دون التعرض إلى ما يمت للأسباب والعوامل التي آلت إلى هذه النتيجة بصلة. والصواب، عنده، هو أن ينصرف البحث السيكولوجي إلى تقديم وصف نوعي للخصائص النفسية مشفوعاً بالتفسير والتعليل.
ويرى فريق آخر أن مقاييس الذكاء والقدرات العقلية هي أدوات غير علمية، وقائمة على التعصب والانحياز الكامل للطبقات الاجتماعية العليا. ولذا فإن أنصارها يرتكبون تحت ستار العلم أخطاء فادحة حين يقررون مصائر الناس بصورة غير إنسانية، ويحكمون على أبناء الطبقات الشعبية الكادحة بالغباء والتخلف العقلي. ويدلل ميشيل تور MICHEL TORT(وهو أحد ممثلي هذا الاتجاه) على صحة هذا الرأي، بالاعتماد على أقوال واضعي المقاييس أنفسهم. ومن بين هذه الأقوال ما اقتطفه من المقدمة التي كتبها سيمون، مساعد بينيه في تصميم أول مقياس للذكاء، لكتابه "قياس نمو الذكاء عند الأطفال الصغار". يقول سيمون في الصفحة رقم 30 من هذا الكتاب: "إن هذه الآلة هي المثال الأول على القياس المباشر للقيمة السيكولوجية للأفراد. لقد أكدت فكرة اللامساواة بين الناس على أساس كان غامضاً. وساعدت على إظهار دوره الشامل وإثبات هذه اللامساواة"(TORT, 1974, 6).
إن ما عناه سيمون بكلماته هو أن الذكاء الذي يقيسه الرائز هو المسؤول عن الفروق الفردية بين الناس. وأنه مركب موروث ينضج شيئاً فشيئاً عبر مراحل الطفولة بغض النظر عن الظروف التي يعيش فيها الطفل. ولذا فإن معدل الذكاء الذي يكشف عنه الرائز بصورة مباشرة يمدنا بإمكانية التنبؤ بمستقبل الطفل الدراسي، بل وبمصيره بشكل عام.
لم تكن هذه الفكرة منطلق سيمون وبينيه وحدهما، وإنما كانت بمثابة المبدأ الذي سلم به الكثيرون من بعدهما، واعتمدوا عليه في بناء الروائز واستخدامها. ولهذا السبب وجهت أصابع الاتهام إلى القياس النفسي، وارتاب بعض العلماء في مصداقيته منذ الوهلة الأولى لولادته، وخاصة بعد أن أسفر تطبيق الروائز الجمعية عن التصنيف العرقي لأفراد القوات المسلحة الأمريكية إبان الحرب العالمية الأولى على أساس درجاتهم في تلك الروائز. فقد حصل المجندون السود على درجات أقل بكثير من الدرجات التي حصل عليها رفاقهم البيض الذين ينحدرون من أصل أوربي.
وبالمقابل يصر فريق ثالث على المضي في الاتجاه الذي اختطه الرواد الأولون. ومع أن أنصار هذا الرأي يعترفون بتباين وجهات نظرهم حول طرق معالجة البيانات في البحوث النفسية والنظم الرياضية التي تطبق أثناء ذلك، فإنهم يتفقون حول ضرورة بذل المزيد من الجهد لتطوير تقنيات القياس النفسي. تقول ليوناتايلر L.TYLER: "ومنذ تقدم ستيفنز بهذا النظام لتصنيف مستويات القياس، لا زال الحوار دائراً على نطاق واسع حول ما هي الطرق الصحيحة والطرق غير الصحيحة لمعالجة أنواع معينة من البيانات النفسية"(تايلر،
1985، 27). ثم تضيف: "وإن تقرير ما إذا كانت مجموعة من القياسات تقع تحت فئة مقاييس الترتيب أو مقاييس الوحدات المتساوية لهو أيضاً أمر صعب في بعض الأحيان"(المرجع السابق، 27). ولتجاوز هذه الخلافات والصعوبات تقترح الطريقة التالية: "أن نعتبر النظم الرياضية التي تطبق على البيانات بمثابة نماذج تشبه النماذج التي يعدها الجيولوجيون لدراسة خصائص الأنهار أو تدرجات الجبال. فإذا أدت الملاحظات القائمة على هذا النموذج إلى الوصول إلى استنتاجات لم تطبق بنجاح في الحياة العملية أو لم تساعد على إجراء مزيد من البحوث، فإن هذا النموذج يستغنى عنه ليحل محله نموذج أفضل"(المرجع السابق، 27).
وفي سياق تعليل هذا الاقتراح والتأكيد على قيمته العلمية تشبه تايلر نظم القياس النفسي باللغة وقواعد التعامل الاجتماعي. وتعتقد بأن ما تشترك فيه هذه النظم مع اللغة وقواعد التعامل الاجتماعي هو العرف". وطالما أن الباحثين يتبعون نفس الأساليب المتعارف عليها بينهم، فإنهم سوف يفهمون بعضهم بعضاً. وكلما تزايدت البراهين وتراكمت، تغير بعض هذا العرف، مثل ما تقوم الهيئات المشرفة على لعبة كرة القدم قواعد اللعبة من سنة إلى أخرى"(المرجع السابق، 28).
وهكذا يبدو بجلاء أن الحوار بين العلماء حول المقاييس والروائز وتقنياتها لا يزال قائماً، وخلافاتهم حول موضوعية نتائجها وجدواها ما فتئت تحتل حيزاً هاماً في الدوريات والكتب المختصة والندوات والمؤتمرات.(*)
والحقيقة أن استخدام القياس في دراسة النشاط النفسي قد اصطبغ في فترات متعددة وأماكن مختلفة بالصبغة العنصرية والطبقية. فقد وجه علماء النفس الألمان النازيون من أصحاب "علم النفس الأنتربولوجي" اهتمامهم نحو إقامة الدليل على وجود علاقة بين الانتماء العرقي والصفات النفسية. فوجد أرنولد أن الإنسان الذي ينتمي إلى العرق الشمالي يكون أكثر هدوءاً واتزاناً وذكاءً من الإنسان الجنوبي الذي يلاحظ عليه خضوعه السريع إلى إنسان الشمال.
إن ما توصل إليه آرنولد لم يأت نتيجة دراسة ميدانية للخصائص النفسية عند عينات من سكان الشمال وسكان الجنوب، بل هو تعميم لدراسة تناول فيها سلوك الدجاج الذي ينتمي إلى العرق الشمالي وسلوك الدجاج الذي ينتمي إلى العرق الجنوبي.
وتوصل زميله ينيش إلى نتيجة مماثلة. فقد استنتج "أن ثمة تجانساً وراثياً وتماثلاً فطرياً بين الإنسان من جهة، والحيوانات من جهة ثانية، وأن هناك خصائص عرقية موروثة عند أجناس الحيوانات(الدجاج مثلاً) وعند الإنسان على حد سواء"(عامود، 1978، 15).
وفي دراسة أخرى تناول فيها ينيش وفريش الخصائص العرقية
عن طريق المقاومة الكهربائية للجلد تم تقسيم الناس إلى خمسة أنواع:
 J1, J2, J3, S1, S2  فمن ينتمي إلى أحد الأنواع الثلاثة J1, J2, J3 كان جيداً، ومن ينتمي إلى النوعين الآخرين كان رديئاً(المرجع السابق، 15).
وعلى الرغم من الانتقادات العنيفة والمتلاحقة التي وجهت إلى مثل هذه الدراسات وخلفياتها النظرية ووصفها بشتى الصفات السيئة والشريرة، فإنه لا يزال هناك من يؤمن بالتمييز العرقي والعنصري ويستخدم ما لديه من وسائل للدفاع عنه ويستنفر كل طاقاته لجمع الأدلة والبراهين التي تمنحه المصداقية العلمية والوجود الشرعي. وفي هذا الصدد نشر أ.م.شوي A.M.SHOEY ما بين عامي 1958-1966 نتائج دراساته الميدانية، وأبرز من خلالها الفروق الوراثية بين البيض والسود. كما نشر أ. ر. جينسين H.R.JENSEN عام 1969 مقالاً تحت عنوان "إلى أي مدى يمكننا رفع نسبة الذكاء والتحصيل الدراسي؟" نسب فيه النتائج المتواضعة التي حققتها برامج ما عرف بـ "انطلاق الرأس" التي طبقت في الولايات المتحدة الأمريكية إلى تدني مستوى ذكاء التلميذ الأسود الذي تقرره الوراثة. ومما جاء في هذا المقال قوله: "إن كثرة الأدلة، في رأيي، أقل تأييداً للفرض البيئي الخالص وأكثر تأييداً للفرض الوراثي الذي لا يستبعد- بطبيعة الحال- تأثير البيئة أو تفاعلها مع العوامل الوراثية"(فرنون، 1988، 17).
ولقد أثار هذا المقال احتجاج الدوائر السياسية والأوساط الشعبية وبعض المؤسسات العلمية خاصة وأنه جاء في غمرة الصراع الذي شهدته الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الرئيس جون كينيدي وبعده بين السكان السود بقيادة القس مارتن لوثر كينغ وبين العنصريين البيض داخل السلطة وخارجها. وفيما يتعلق بأدوات القياس التي تم استخدامها في تلك الدراسات أشار عدد من الكتاب والباحثين إلى نقائص الروائز وسلبيات النتائج التي أسفر عنها تطبيقها الارتجالي. وأمام كثرة الاعتراضات والشكاوي التي تقدمت بها هيئات علمية واجتماعية أصدرت ولايات عديدة عام 1970 قوانين تحظر استخدام روائز الذكاء في مدارسها بسبب تحيزها الثقافي. كما طالبت رابطة السيكولوجيين السود بإغلاق الباب أمام القياس العقلي إلى أن تحل الإشكالات المتعلقة بموضوعيته وعلميته. ونادى البعض بوقف العمل بالروائز والاستغناء عنها نهائياً واستبدال اختبارات بياجيه واختبارات تكوين المفاهيم بها(المرجع السابق، 19).
وتكمن الاعتراضات والانتقادات التي توجه إلى روائز الذكاء والقدرات العقلية في:
-إن معظم الروائز يفتقر إلى الدقة والوضوح والتناسق البيني.
-إن الكثير من الروائز يقيس المعلومات والمهارات التي تم اكتسابها عن طريق التعلم عوض أن تقيس القدرة العقلية أو جانباً من الذكاء مثلما هو شأن الروائز التي تتضمن تمارين ومسائل رياضية أو أسئلة تاريخية أو جغرافية أو أدبية من مثل: من هو كاتب قصة روميو وجولييت؟ ما هو أطول نهر في العالم؟ ما هي اللغة الهيروغليفية؟ ما معنى كلمة "سرداب"؟.. الخ.
-تفاوت إمكانية مطبقي الروائز وما ينجم عنه من اختلاف مواقفهم تجاه المفحوصين أثناء تطبيق الروائز وتباين تقديراتهم لاستجابات هؤلاء المفحوصين خلال عملية التصحيح. ويورد فرنون، كمثال على ذلك، الدراسة التي أجراها كوهين عام 1965، والتي تناولت 12 أخصائياً نفسياً ممن طبقوا بعض الروائز. فقد تبين للباحث أن هناك فرقاً ذا دلالة إحصائية بين الدرجات التي منحها بعض هؤلاء الاختصاصيين للمفحوصين في بعض بنود مقياس وكسلر والدرجات التي منحوها لنفس المفحوصين في بنود أخرى من المقياس(المرجع السابق، 27).
-إن مواقف المفحوصين من الروائز وإجاباتهم عليها تتأثر بمستوى معرفتهم بها وإلفتهم لها. فالمفحوصون الذين عرفوا هذا الأسلوب من الامتحان وتدربوا عليه هم أبعد عن القلق والارتباك من أترابهم الذين لم يمروا بمثل هذه التجربة.
ولما كان الهدف من بناء أدوات القياس هو قياس الذكاء والقدرات العقلية وسمات الشخصية، فإننا سوف نتتبع حركة القياس النفسي عبر هذين المسارين.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire