dimanche 25 mars 2012

بافلوف و النشاط العصبي العالي

بافلوف والنشاط العصبي العالي



عاش إيفان بتروفيتش بافلوف بين عامي 1849 و 1936. وقد عانى في المراحل الأولى من حياته الفاقة والحرمان. فهو سليل أسرة فلاحية متواضعة، استقرت في مدينة ديزان. وعاش حياته للعلم وحده، فكان مثال البساطة والحيوية في آن معاً. وتوفي إثر التهاب رئوي حاد.
كان بافلوف الأب يرغب في أن يصبح ابنه رجل دين. ولكن رغبته هذه اصطدمت بميل الابن إلى دراسة علوم الطبيعة. وقد نشأ هذا الميل وتنامى تحت تأثير النجاحات التي أحرزتها هذه العلوم، وانتشار الأفكار المشحونة بالإيمان بقدرة العقل البشري على الاكتشاف والإبداع. فعلى الصعيد العالمي وجدت نظريات النشوء والارتقاء طريقها إلى أذهان شرائح المثقفين والمتعلمين في مختلف أنحاء العالم. ووضعت الاكتشافات الجديدة في ميادين الفيزياء والكيمياء والطب والتشريح المجتمع الغربي على أعتاب مرحلة نوعية جديدة من مراحل تطوره الحضاري. وعلى الصعيد الروسي عرفت الحركة الاجتماعية والوضع الاقتصادي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر انتعاشاً، ملحوظاً، واكبته ونجمت عنه نهضة علمية وفكرية. ففي تلك الفترة صدرت قوانين تحرير الفلاحين سنة 1861. وظهرت بعدئذ التجمعات والحركات الفكرية والسياسية المختلفة إلى جانب انتشار الأفكار الديمقراطية الثورية ونظريات سيجينيف ومندليف وتيمريازيف وغيرهم.
ومع أن بافلوف انتسب إلى كلية الحقوق في جامعة بطرسبورغ عقب انتهاء دراسته الثانوية، فإن ميله القوي نحو علوم الأحياء والفيزيولوجيا دفعه إلى تغيير اختصاصه والالتحاق بقسم العلوم الطبيعية في كلية الرياضيات والفيزياء. وقد تحدث بافلوف عن تأثير الفكر الديمقراطي الثوري في توجيهه العلمي منذ أن كان تلميذاً في المدرسة الثانوية، فقال: "تحت تأثير أدبيات الستينيات، ولاسيما بيساريف، اتجهت ميولنا المعرفية نحو الطبيعة. فالعديد منا –وأنا من بينهم- قرر أن يدرس العلوم الطبيعية في الجامعة" (بافلوف، 1951، ج5، 371).
كما أفصح بافلوف عن إعجابه الشديد بآراء سجينيف وصداها في نفسه وأثرها في تحديد مستقبله العلمي، حيث قال: "لقد كان الأثر الذي تركه في نفسي منذ سني شبابي الكتيب الرائع لإيفان ميخائيلوفيتش سيجينيف، أب الفيزيولوجيا الروسية، بعنوان "انعكاسات المخ" الدافع الرئيسي لقراري…" (المرجع السابق، ج3، 18).
التحق بافلوف بالجامعة عام 1870. وخلال دراسته فيها تعرف على نخبة من العلماء، وفي مقدمتهم عالم الكيمياء د.مندليف وزميله أ.بوتليروف، وعالما النبات أ.بيكتيوف وأ.بوردوين وعالما الفيزيولوجيا ف. أوفسيانيكوف وإ.تسيون. وأشاد بمستوى التعليم في كلية الرياضيات والفيزياء وبمواهب أساتذتها وقدراتهم، إذ قال: "لقد كان وضع الكلية في ذلك الزمن رائعاً. وكان عندنا من الأساتذة عدد من ذوي السمعة العلمية الكبيرة والموهبة التعليمية الفذة" (المرجع السابق، ج5، 371).
ولعل الفيزيولوجيا هي أكثر العلوم التي استهوت بافلوف منذ الأشهر الأولى من حياته الجامعية. وكان ميله نحوها يقوى ويشتد يوماً بعد يوم. وما أن وصل إلى السنة الثالثة حتى حسم أمره وقرر أن يكرس جهده لهذا العلم الذي كان يتقدم ويزدهر بوتائر سريعة. ولذا نراه يبدأ نشاطه العلمي في هذا المجال في وقت مبكر. ففي عام 1873 (أي في سنته الجامعية الرابعة) أجرى أولى تجاربه العلمية على الضفدع بهدف دراسة أعصاب الرئتين عند هذا الحيوان. وفي نفس العام قام بالتعاون مع زميله ف. فيليكي بدراسة تأثير أعصاب البلعوم على دوران الدم تحت إشراف تسيون. وبعد مدة وجيزة درس مع زميل آخر، هو م.أفانانسيف، فيزيولوجية أعصاب البنكرياس بإشراف تسيون نفسه.
أنهى بافلوف دراسته الجامعية عام 1875، والتحق بعمله كمساعد للأستاذ تسيون الذي شغل منصب رئيس قسم الفيزيولوجيا في أكاديمية الطب الجراحي، وهو المنصب الذي كان يشغله سيجينيف. وفي ذات الوقت تابع دراسته في هذه الأكاديمية ليس من أجل أن يصبح طبيباً، بل للحصول على شهادة الدكتوراه التي تخوله تسلم رئاسة قسم الفيزيولوجيا. ولكنه سرعان ما ترك عمله بعد أن أرغم تسيون على التخلي عن منصبه، ورفض عرض رئيس القسم الجديد إ.تارخانوف البقاء معه.
وهكذا بقي دون عمل إلى أن دعاه الأستاذ ك. أوستيموفيتش للعمل كمساعد له في قسم  البيطرة التابع لأكاديمية الطب الجراحي. وكان أوستيموفيتش ذا أفق علمي واسع. فقد تتلمذ على يد ك.لودفيغ، واستطاع أن يقيم في الأكاديمية مخبراً لبحث مسائل فيزيولوجيا جهاز الدوران والوظيفة الإفرازية للكليتين. وهذا ما مكّن بافلوف من القيام بعددٍ من الأعمال القيمة التي تناول فيها بعضاً من تلك المسائل. وقد تكشفت خلال وجوده في هذا المخبر (1876-1878) سمات شخصيته العلمية المتميزة وقدرته على ابتكار طرائق جديدة في دراسة وظائف الجسم الحي. وأهم ما توصل إليه عبر سلسلة تجاربه هو إمكانية قياس ضغط الدم عند الكلب دون اللجوء إلى تخديره أو تقييده.
وبفضل هذه الأعمال ذاع صيت بافلوف وصار اسمه يتردد في الأوساط العلمية. وقد وصلت شهرته إلى الطبيب الروسي المشهور س. بوتكين فدعاه هذا العالم إلى العمل في عيادته. فلبّى بافلوف الدعوة، يحدوه في ذلك أمله في مواصلة نشاطه المخبري، خاصة بعد إغلاق مخبر أوستيموفيتش وتوقفه عن العمل.
وفي مخبر بوتكين وضع بافلوف خطة عمل ثرية وشرع بتنفيذها بكل جدية وصرامة. وكان طيلة السنوات العشر التي قضاها هناك يحرص على إقامة علاقات علمية وطيبة مع العاملين معه. ويشير المؤرخون والكثير من العلماء بشكل خاص إلى الأهمية الكبيرة التي اكتسبتها هذه الفترة في مستقبل بافلوف العلمي. وقد ركزوا في ذلك على ما بذله من جهد كبير، وما انتهى إليه من نتائج إيجابية، وعلى ما كان يلقاه من بوتكين من توجيه وتشجيع.
وتعتبر دراسة بافلوف للأعصاب المركزية النابذة في القلب أهم أعماله خلال العشرية المذكورة. ولعلنا نلمس في هذا العنوان الصلة الوثيقة بين إلحاح بوتكين على تعاون الطب والفيزيولوجيا، وتسليمه بالدور المحوري الذي تلعبه الجملة العصبية في حياة الكائن الحي وبتأثيرها على سلامته من جانب، وشغف بافلوف بقضايا فيزيولوجية الحيوانات الراقية من جانب آخر. وهذا ما أشار إليه بافلوف بقولـه: "إن فكرة الدراسة وإنجازها يخصاني وحدي. ولكنني كنت محاطاً بالأفكار الإكلينيكية للأستاذ بوتكين. وإنني مع خالص الامتنان إذ أعترف بتأثيره الخصب على هذا العمل، وعلى جميع آرائي الفيزيولوجية بشكل عام من خلال النظرية العصابية العميقة والشاملة التي كانت تسبق المعطيات التجريبية، التي تعد، في اعتقادي فضلاً كبيراً لسيرغي بيتروفيتش (بوتكين –ب.ع-) على الفيزيولوجيا
ولقد أصبحت هذه الدراسة فيما بعد موضوعاً لأطروحة الدكتوراه التي ناقشها بافلوف عام 1883 بنجاح كبير، ونال بفضلها الميدالية الذهبية. وتشجيعاً له وتقديراً لمواهبه العلمية النادرة اقترحت الأكاديمية الطبية إيفاده إلى ألمانيا. وفي عام 1884 سافر بافلوف إلى هناك، وعمل في مخبر ب.غيدنغاين ومخبر ك.لودفيغ حولين كاملين. وتمكن خلالهما من تطوير قدراته ومعارفه في ميدان الفيزيولوجيا. ووسعت معرفته المباشرة بالعلماء والباحثين الألمان آفاقه العلمية وأمدته بمزيد من الثقة بمستقبله العلمي، والكثير من الدأب والمثابرة. ويتذكر بافلوف إقامته في ألمانيا فيقول بتواضع العالم: "لقد كانت الرحلة إلى الخارج ثمينة بالنسبة لي. فقد عرفتني بشكل أساسي بنمطٍ من العلماء أمثال غيدنغاين ولودفيغ ممن رهنوا حياتهم بأفراحها وأتراحها للعلم وحده وليس لأي شيء آخر"
وبعد انقضاء مدة الإيفاد عاد بافلوف إلى بلده وهو أكثر طموحاً وتصميماً. فقد حمل معه، إلى جانب ذكرياته وانطباعاته عن الشخصيات العلمية الألمانية، زاداً علمياً غنياً لم يدخر وسعاً في توظيفه لتحقيق أهدافه وتكريسه لخدمة البحث العلمي. فبعد عودته مباشرة شرع بإلقاء سلسلة من المحاضرات في الفيزيولوجيا على طلاب الأكاديمية الطبية العسكرية وأطباء المستشفى العسكري، إضافة إلى نشاطه العلمي الذي واصله في مخبر بوتكين. ولعل أبرز ما قام به في تلك الأثناء هو وضع طريقة لتحضير ما يسمى بالمستحضر القلبي –الرئوي. وتعمد هذه النظرية على عزل القلب والرئتين عن مجرى الدورة الدموية بقصد دراسة عدد من المسائل العلمية والعملية لفيزيولوجيا الدورة الدموية دراسة تجريبية. كما أنه تمكن من وضع القواعد الأساسية لأبحاثه المستقبلية في فيزيولوجيا الجهاز الهضمي. وذلك بفضل اكتشافه للأعصاب التي تنظم النشاط الهرموني الذي تقوم به غدة البانكرياس.
وعلى الرغم من النجاحات التي أحرزها بافلوف في المدرجات والمخابر، فإن ظروفه المادية السيئة ما انفكت تثير قلقه وقلق زوجته. واستمر شعوره بالحاجة إلى مصدر يؤمن نفقاته الأسرية الأساسية ويسمح له بمواصلة نشاطه العلمي. ولم يبق أمامه من خيار سوى الاتصال بالمسؤولين الحكوميين. فتوجه في تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1887 بطلبٍ إلى وزير التعليم عبّر فيه عن استعداده للإشراف على أي قسم من أقسام الطب التجريبي. وبعد مضي شهر على طلبه هذا بعث برسالة تحمل نفس المضمون إلى رئيس جامعة سيبيريا في تومسك. ولكن مساعيه في هذا الاتجاه لم تجد نفعاً.
وكان عليه أن ينتظر ثلاثة أعوام تقريباً ليشارك في مسابقة لشغل منصب أستاذ الفيزيولوجيا في جامعة بطرسبورغ الذي أصبح شاغراً بعد إقالة سيجينيف منه. وفي هذه المرة أيضاً لم يحالفه الحظ، حيث وقع اختيار اللجنة المختصة على ن.فيدينسكي. وقد أحس بافلوف وقتهابالخيبة والظلم. ومما زاد في إحساسه هذا رفض وزير التعليم دليانوف الاقتراح الذي تقدمت به إدارة جامعة تومسك والمتضمن ترشيح بافلوف لمنصب أستاذ الفيزيولوجيا فيها.
وبقي حال بافلوف على هذه النحو حتى 23 نيسان (أبريل) 1890 عندما اختير لمنصب أستاذ الفارموكولوجيا (علم الصيدلة) في تومسك وجامعة وارسو. غير أنه لم يترك بطرسبورغ بسبب اختياره لنفس المنصب في الأكاديمية الطبية العسكرية في 24 نيسان من نفس العام. وقد ظل يشغل هذا المنصب خمس سنوات، انتقل بعدها إلى قسم الفيزيولوجيا في الأكاديمية نفسها، واستمر فيه طيلة ثلاثين عاماً، وتمكّن خلال هذه الفترة من أن يجمع بين نشاطه التعليمي وبحوثه العلمية المخبرية، وأن يوفق بين العمل داخل القسم وخارجه بشكل مبدع وخلاّق.
ومما تجدر الإشارة إليه هو ذلك التحول الذي طرأ على اهتمام بافلوف من السنوات الأولى من هذه المرحلة. فبعد أن كانت فيزيولوجيا الجهاز الهضمي تحتل مركز اهتمامه، أصبحت قضية الانعكاسات الشرطية شغله الشاغل ومحور نشاطه الأول بلا منازع. ويذهب المؤرخون إلى أن بداية عمل بافلوف في معهد الطب التجريبي تشكل علامة متميزة في حياته. ويرجع الفضل في التحاقه بهذا العمل إلى الأمير اولدنبورغسكي الذي دعاه عام 1891 إلى تنظيم قسم الفيزيولوجيا في ذلك المعهد والإشراف عليه. ومنذ ذلك التاريخ بقي بافلوف محتفظاً برئاسة هذا القسم حتى وفاته. وفيه أجرى تجاربه المعروفة حول فيزيولوجية الغدد الهضمية الرئيسية، التي حملت له شهرة عالمية، ونال بفضل النتائج التي استخلصها جائزة نوبل في الطب لعام 1904. كما أنجز فيه أيضاً معظم أعماله في الانعكاسات الشرطية.
وفي عام 1907 أصبح بافلوف عضواً في أكاديمية العلوم الروسية. ولم تمض سنوات قليلة على ذلك حتى انتخب عضواً في الكثير من الأكاديميات الأجنبية: الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية والإيطالية والأرجنتينية.
لقد أسهم بافلوف بشكل ملحوظ عبر سنوات نشاطه العلمي المديدة في تأسيس وتطوير العديد من المؤسسات والمراكز الطبية والفيزيولوجية والثقافية. وشارك في أعمال العديد من المؤتمرات الدولية والمحلية الفيزيولوجية منها والسيكولوجية. وتعرف على علماء من مختلف بلدان العالم، وأقام معهم علاقات وطيدة. ومن بين هؤلاء العلماء ب.يركسون وج.كيلوغ وف.غينيت و و.كنيون وهـ.ليديل وإ.ثورندايك وك.هال من الولايات المتحدة الأمريكية وش.شيرينغتون وف.بيليس وغ.ستارلينغ وج.باركروفت وأ.هيل من بريطانيا وف.تريندلنبورغ وإ.هيرينغ وم.فيرفورن وإ.أبدرغالدن وإ.فيشر وأ.بيتبيه من ألمانيا وب.تيغرشتيدت من فنلندا وب.ماغنوس وك.فينكلر من هولندا وش.ريشيه ول.لابيك من فرنسا وك.ماناكوف وم.مينكوفسكي من سويسرا.
انطلق بافلوف منذ بداية نشاطه من مقولة بيساريف "تفنى الكلمات والأوهام، وتبقى الوقائع". وكان إيمانه بهذه المقولة يتعزز يوماً بعد يوم كل خطوة يخطوها العلم، ومع كل اكتشاف جديد يحققه هذا العالم أو ذاك ضمن دائرة اهتمامه. فلا غرو أن يكرس الجزء الأكبر من جهده ووقته سعياً وراء الوقائع والمعطيات التجريبية، وإخضاعها للفحص والتحليل الدقيقين بغية الوصول إلى نتائج أكثر صدقاً وموضوعية.
ولكن بافلوف لم يجرِ تجاربه، ولم يتناول معطياتها بصورة عشوائية أو انتقائية ودونما إطار مرجعي. فقد كان يعلن صراحةً عداءه الشديد لدعاوى التجريب من أجل التجريب وجمع الوقائع فقط. ولم يدع فرصة أو مناسبة إلا واستغلها في التأكيد على أهمية النظرية في العمل. ذلك لأن النظرية، عنده، ضرورية ليس من أجل تثبيت الوقائع وتفسيرها فحسب، بل ومن أجل أن يكون ثمة ما يتحرّك به إلى الأمام. يقول: "إذا لم تكن لديك فكرة، فإنك لن ترى الوقائع (المرجع السابق، ج3، 450).
ولكي تكون النظرية علمية بالفعل عليها أن تحيط بالمادة المتوفرة وتتيح المجال أمام المزيد من الدراسة والتجريب غير المحدود. وهكذا فإنه ينظر إلى النظرية والتطبيق، والفكرة والتجربة في علاقتهما الجدلية ومن خلال أهمية كل طرفٍ منهما بالنسبة للطرف الآخر.
لقد أشرنا منذ قليل إلى أن بافلوف تناول بالبحث عبر العقود الستة من نشاطه العلمي فيزيولوجية الدورة الدموية وفيزيولوجيا الجهاز الهضمي والنشاط العصبي العالي على التوالي. وربما تضع هذه المجالات الباحث أمام حقيقة أن بافلوف كان طموحاً، متعدد الاختصاصات وواسع الاطلاع وذا موهبة وقدرات نادرة. وبما أنه لم يعمل في هذه المجالات دفعة واحدة، بل إنه تناولها الواحد تلو الآخر، فقد اتخذ المؤرخون من ذلك أساساً لتقسيم حياته العلمية إلى ثلاث مراحل رئيسية.
ولعل السمات التي كان يتمتع بافلوف انعكست بوضوح على الطريقة التي استخدمها في دراسة موضوعات اهتمامه. ولهذه الطريقة من التقنيات والأدوات ما جعلها أصيلة وجديدة خلافاً للبحوث التي عرفتها الفيزيولوجيا قبل بافلوف، والتي اعتمدت أساساً على المدخل التحليلي الأحادي الجانب في دراسة الوظائف المعقدة للكائن الحي. ويتمثل هذا المدخل في قيام الباحث بتشريح الحيوان واستخراج مقطع أو جزء من الجهاز العصبي أو الجهاز الهضمي أو غيرهما من الأجهزة وعزله عن باقي الأجزاء وإدخال تغيير ما في المجرى الطبيعي للعمليات الحيوية عند الحيوان المخدَّر. وتهدف هذه الإجراءات إلى الكشف عن قوانين وآليات عمل العضوية عن طريق إثارة الجزء المعني أو مضايقته كهربائياً أو حرارياً أو ميكانيكياً. ومن الأمثلة على هذه التجارب تلك التي أجراها هـ.فريتش وإ.غيتسينا وأتباعهما. فقد درس هذان العالمان الوظيفة الحركية الحسية للعضلات عن طريق نزع جزء عضلي وعصبي بصورة كلية من الحيوانات ذات الدم البارد ثم تحريض العصب كهربائياً وتسجيل التقلصات العضلية الناجمة عن هذا التحريض. وبنفس الطريقة قام تلاميذهما بدراسة وظائف المخ. فكانوا يلجؤون إلى تنبيه مختلف مناطق المخ عند الحيوانات الراقية بعد تعريته. كما استخدمها علماء كبار أمثال كلودبرنار ولودفيغ وتسيون في دراستهم للدورة الدموية والنشاط الإفرازي الهرموني والعصارات الهضمية عند الحيوانات بعد تخديرها أو تثبيتها.
وقد عارض بافلوف هذه الطريقة وكشف عن عيوبها وضعف مردودها في دراسة دور وآليات نشاط الأعضاء والأجهزة عند الكائنات الحية الراقية والدنيا. وهذا ما يتبين بشكل جلي من خلال ما كتبه في هذا الصدد، حيث قال: "إن التقطيع البسيط للحيوان في التجربة الحادة تتضمن، كما يتضح الآن أكثر فأكثر مع مرور كل يوم، مصدراً كبيراً للأخطاء، ذلك لأن فعل العبث الفظّ بالعضوية يترافق بالكثير من الآثار المعيقة لوظيفة مختلف الأعضاء" (المرجع السابق، ج1، 33).
ولذا كان من الطبيعي أن يبحث بافلوف عن حل آخر يتجاوز به نقائص وسلبيات الدراسات المذكورة وأضرابها. ولقد استند في سعيه هذا على درايته بتقنيات التجربة التشريحية ونظرته إلى العضوية باعتبارها كلاً متكاملاً من ناحية، ووحدتها مع البيئة الخارجية من الناحية الثانية. فلم يجد صعوبة في أن يهتدي إلى طريقة تضمن المحافظة على هذين الشرطين أثناء القيام بالتجربة. وقد أطلق على هذه الطريقة اسم "التجربة المستديمة" للدلالة على بقاء الحيوان سليماً خلال التجربة. ووجد أنها تمكن الباحث من القيام بدراسة وظائف الأعضاء دراسة تحليلية على نحو أدق مما تسمح به الطرائق التقليدية. وأنها، زيادة على ذلك، تفسح المجال أمام الدراسة التركيبية للوظائف المقعدة.
ومما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن الطريقة المقترحة كانت تستخدم قبل بافلوف. فقد استخدمها بعض الفيزيولوجيين أمثال هيدينغاين وهولتس ولوجياني. بيد أن النطاق الذي استخدمت فيه آنذاك لم يكن واسعاً. وبعد أن قرر بافلوف العمل بها في دراساته المبكرة للدورة الدموية أدخل على تقنياتها بعض التعديلات وحسّن أدواتها. واستطاع عبر ممارسته الطويلة أن يبتكر عشرات النماذج من التجارب المشتقة منها.
وعلى الرغم من الصلة الوثيقة بين موضوعات اهتمام بافلوف خلال مراحل نشاطه العلمي الثلاث، فإننا سوف نقصر حديثنا على دراسته للنشاط العصبي العالي التي استمرت نحو أكثر من ثلاثين عاماً. على أنه لابدّ من القول في هذا السياق بأنّ دور التجارب التي أجراها بافلوف لدى دراسته لمسائل فيزيولوجيا الجهاز الهضمي خلال المرحلة الثانية كان كبيراً وأثرها في أعماله اللاحقة كان جلياً. فهي التي مهّدت السبيل أمام ظهور مجموعة كبيرة من التجارب المشابهة التي قام بها ومساعدوه لدراسة سلوك الإنسان والحيوان. ولهذا يمكن اعتبارها بمثابة المحرض الذي ضاعف من فضول بافلوف وولعه بمعرفة آليات النشاط الذي يقوم به الكائن الحي الراقي أثناء تفاعله مع العالم الخارجي.
وتتلخص التجارب التي صممها بافلوف وفق الطريقة هذه في إحداث تغيير في القنوات الهضمية عن طريق عمل جراحي يتم فيه قطع مري الحيوان من المنطقة الرقبية، ووصله بالحواف الخارجية للجلد بعد إخراجه من فتحة مستحدثة في نفس المنطقة. كما يتم إحداث فتحة في المعدة تغلق بسدادة يخترقها أنبوب يسمح بمرور العصارة المعدية إلى خارج جسم الحيوان وتجميعها في وعاء خاص. وبعد أن تتلاشى آثار المخدر ويتماثل الحيوان (الكلب) للشفاء تبدأ الخطوة الثانية المتمثلة في الإطعام الوهمي. حيث يقدم الطعام للكلب، دون أن يصل ما يتناوله هذا الأخير منه إلى المعدة، لأنه يخرج من الشق العلوي للمري بعد مضغه وابتلاعه مباشرة. وما أن تمر دقائق معدودات على ذلك حتى تبدأ المعدة بإفراز عصارتها. وتستمر المعدة في عملية الإفراز هذه عشرات الدقائق، وقد تصل في بعض الأحيان إلى الساعة.
لقد توقف بافلوف عند هذه المعطيات. وخلص في نهاية تحليله لها إلى أن إفراز العصارة المعدية أثناء الإطعام الوهمي يحمل طابع القانون الفيزيولوجي المحدد. فإفرازات المعدة الناجمة عن تأثير الطعام على الإحساس الذوقي في هذا الوضع التجريبي تخضع لآلية الانعكاس، أي أنها تحدث بسبب إثارة أعصاب معينة تمتد إلى الغدد المعدية. وهذا ما حاول بافلوف البرهان عليه في تجربة أخرى، حيث قام بقطع الأعصاب الشاردة([1]) عند الكلب زيادة على الإجراءات المذكورة في التجربة السابقة. فتبين له أن الإطعام الوهمي لا يستدعي أية إفرازات للعصارة المعدية. وعلى هذا الأساس قدم بافلوف تفسيراً جديداً لهذه الظاهرة خالف به جميع التصورات السائدة. فقد ذهب إلى أن الطعام يثير الجهاز الذوقي، وأن هذه الإثارة تنتقل عبر الأعصاب الذوقية إلى البصلة السيسائية، ومنها إلى الغدد المعدية عبر الأعصاب الشاردة. وهذا يعني أن وجود الأعصاب الشاردة يسمح حتى في حالة الإطعام الوهمي بتشكل قوس الانعكاس الذي يبدأ بالفم وينتهي بالغدد المعدية. وأن عزلها أو قطعها يؤدي إلى تعطل الغدد المعدية وتوقفها عن نشاطها الإفرازي نتيجة انقطاع الطرق المؤدية إليها.
وهكذا فإن قطع الأعصاب الشاردة يفضي إلى تلك النتائج حتى بالنسبة لما يُعرف بالإفراز النفسي للعصارة المعدية وغيابه أثناء رؤية الطعام أو شمّ رائحته وتذوّق طعمه.
إن هاتين التجربتين وتجارب أخرى مماثلة تقدّم الدليل القاطع على أنّ تحول بافلوف إلى دراسة النشاط العصبي العالي كان حدثاً منطقياً جسد هذا العالم من خلاله برنامجاً علمياً متماسكاً متناسقاً. كما أنها تعتبر برهاناً ساطعاً على أن الطريقة التي استخدمها في معالجة مشكلات الجهاز الهضمي والنشاط العصبي العالي عند الحيوانات الراقية لم تكن إلا انعكاساً لتصوره عن وحدة العضوية وجدلية علاقتها بالوسط المحيط. وهذا ما عبّر عنه في أكثر من مناسبة وموقف. فقد كتب يقول: "يمثل الجسم الحي نظاماً معقداً إلى حدٍّ قصيّ، ومؤلفاً من عدد من الأجزاء غير المحددة تقريباً، والمرتبط بعضها ببعض، وبنوع من الوحدة الواحدة مع الطبيعة المحيطة التي تتوازن معها" (المرجع السابق، ج2، 252). وأن اكتشافاته في ميدان الانعكاسات الشرطية لم تكن صدفة، وإنما جاءت تتويجاً لسنين طويلة من العمل الدؤوب والنظرة الثاقبة والتفكير المنطقي العميق.
ومما لا شك فيه أن هذه الحقيقة لا تتفق البتة مع ما يدّعيه البعض من أن اكتشاف بافلوف للنشاط الانعكاسي الشرطي قد تم عن طريق الصدفة. ولترويج هذا الادعاء وإعطائه البعد الواقعي الحسي يروي أصحابه حكاية مساعد بافلوف الذي كان يتولى تقديم الطعام إلى الكلب وما أحدثه إيقاع خطواته بعد عدة مرات من قيامه بهذا العمل من آثار على الاستجابة اللعابية للحيوان. ولعل هذه الحكاية تذكرنا بحكاية نيوتن واكتشافه لقانون الجاذبية وفضل الصدفة على تغيير تصورات الناس عن سقوط الأشياء. فقد كان سقوط التفاحة من الشجرة لحظة وجود نيوتن في ذلك المكان، في رأي أصحاب هذا الادعاء، منبهاً قوياً فتح عيني نيوتن، ووضع في يده مفتاح سر انجذاب الأجسام إلى الأرض. إنهم، بهذه الحكاية، يلغون سنوات طويلة قضاها هذا العالم في البحث والتفكير عن حلّ أو تفسير للمشكلة التي وضعها أمامه.
وقبل الشروع في الحديث عن نظرية بافلوف في الانعكاسات يمكننا الاستعانة بما قاله راي هايمان RAY HAYMAN عن أعمال بافلوف وميله القوي نحو العلوم الفيزيولوجية وقدرته على تمثل أفكار سابقيه وتوظيفها في إعداد وتنفيذ برنامج صارم ومحكم يعكس رؤيته العلمية لمشكلات البحث وطريقة تناولها. يقول هايمان: "وأهم نقطة هي أن تجربة بافلوف الثورية كانت من نواحٍ كثيرةٍ نتاجاً لبيئة ثقافية وعلمية نشأ فيها. وكانت لمسة بافلوف التي تجلت فيها عبقريته هي في جذبه معاً لعدة خيوط تجري في هذه البيئة وإعطائها شكلاً وتفسيراً يتصفان بالتماسك، مبيناً بوضوح مضامينها عن طريق سلسلة من الدراسات يتجلى فيها الصبر والبراعة. ومن المهم أن نلاحظ أنه على الرغم من التأثيرات المتنوعة التي كانت تدفع بافلوف نحو فكرة أنه من الممكن اختصار النشاط العصبي في المستويات الأعلى إلى أفعال منعكسة وعمليات فيزيولوجية، فهو لم يتخذ الخطوة الحاسمة على هذا الطريق إلاّ بعد بحوث طويلة على مظاهر أخرى للتنظيم العصبي للأعضاء الداخلية" (هايمان، بلا تاريخ، 33، 34). ويضيف إلى هذا وفي مكان آخر: "وتمثل تجارب بافلوف المشهورة وبلورته لمفهوم الاشتراط تهجيناً خصباً لأفكار فيزيولوجيا الهضم وفيزيولوجيا الجهاز العصبي والوضعية والمادية ونظرية داروين عن الانتخاب الطبيعي، وأفكار سيجينيف عن الأفعال المنعكسة والكفّ، وأفكار برنار عن الضبط النفسي لسيل اللعاب، وكذلك نتائجه السابقة عن التنظيم العصبي للتغذية والدورة الدموية. وكان العامل المساعد لتركيب كل هذه الأفكار المتنوعة التي كانت "في الهواء" هو اهتمام بافلوف بشرح المفارقات في النشاط الهضمي
الذي لا يمكن تناوله من ناحية التنبيه المباشر للفتحة الفمية"
تعرف طريقة بافلوف في دراسة وظائف المخ باسم "طريقة الانعكاسات الشرطية". وهذه الطريقة هي في جوهرها تحليلية –تركيبية. ذلك لأنها تسمح بدراسة كامل النشاط الحيواني بتعقيداته وتنوعه وديناميته الطبيعية. ومن مزاياها أيضاً أنها تمكن الباحث من ضبط متغيرات بحثه وملاحظتها بصورة موضوعية وقياسها بدقة.
وبفضل مزايا هذه الطريقة تمكن بافلوف ومساعدوه وباحثون آخرون من إجراء مئات التجارب واستخدام أساليب وتقنيات عديدة ومتنوعة في دراسة النشاط الانعكاسي الشرطي عند  الإنسان والحيوانات. وفيما يلي مراحل التجربة الأولى التي استهل بها بافلوف المرحلة الثالثة من نشاطه العلمي.
ذكرنا سابقاً أن دراسة الغدد المعدية، أي التنظيم العصبي لنشاط تلك الغدد، كانت بمثابة القاعدة التي أقام عليها بافلوف الجسر الذي انتقل عبره من ميدان فيزيولوجيا الجهاز الهضمي إلى فيزيولوجيا الدماغ. وعلى الرغم من انتقاله الجديد فقد بقي اهتمامه منصباً نحو النشاط الإفرازي للغدد. ولكن بؤرة هذا الاهتمام تحولت من الغدد المعدية إلى الغدد اللعابية باعتبارها كاشفاً للنشاط الدماغي. فكان عليه، في هذه الحالة، أن يكيف طريقته بشكل يتناسب مع طبيعة موضوع البحث. وهكذا لجأ إلى عمل جراحي بهدف إحداث فتحة إلى الغدد اللعابية عند الكلب دون أن يمسّ هذه الغدد والفروع العصبية التي تغذيها بأيّ أذى. وبعد أن يستعيد الحيوان صحته يُنقل إلى المخبر. وقبل البدء بالتجربة كان يتمّ لصق قمع زجاجي أو معدني صغير على الفتحة. وهذا القمع يتصل بأنبوب طويل ينتهي بوعاء يصب اللعاب فيه. وعن طريق العدّ أو الرسم التخطيطي وبمساعدة أجهزة خاصة كان بإمكان المشرف على التجربة ملاحظة اللعاب الذي يستجره الطعام وقياس كميته بدقة.
ولكي تكتمل صورة البيئة المخبرية التي أعدها بافلوف يجدر بنا أن نشير إلى أن التجارب التي خطا بها ومساعدوه أولى خطواتهم على طريق دراسة الانعكاسات الشرطية كانت متواضعة وبسيطة. حيث كان المجرب خلالها يقف إلى جانب الكلب، ويقدّم لـه الطعام أو يضع في فمه محلولاً حامضاً ويراقب سيلان لعابه ويسجل كميته. غير أن بافلوف سرعان ما وجد نفسه أمام ضرورة عزل الحيوان عن كل ما يمكن أن يكون مصدر إثارة بالنسبة له. فقد لاحظ أن سيلان لعاب الكلب لم يكن انعكاساً شرطياً لرؤية الطعام فقط، بل وللمثيرات السمعية والبصرية واللمسية أيضاً. ولهذا حرص في تجاربه اللاحقة على استبعاد كافة المثيرات الجانبية. فأخذ يضع الحيوان في حجرة خاصة عازلة للصوت بمنأى عن كل تأثير عدا التأثير الذي تقتضيه التجربة. وصارت عمليات تقديم الطعام للحيوان ومراقبته وقياس كمية ما يفرزه من لعاب تتم بواسطة أجهزة ومعدات خاصة.
ومع إدراك بافلوف للعناصر المصطنعة التي نجمت عن الإجراءات الجديدة في هذا الوجه من التجربة، فإنه لم يرَ فيها ما يؤثر سلباً على فكرتها الأساسية. فعزل الحيوان في حجرة صغيرة وتقييد حركته داخلها ووجوده إلى جانب أجهزة وأدوات هي شروط تختلف عن شروط حياته الطبيعية. ورغم ذلك فإنها لا تؤثر على المجرى الطبيعي لنشاط عضويته، ولاسيما نشاطه الدماغي. وللتحقيق من صحة هذه الفرضية قام بافلوف بعدة تجارب، سمح فيها للحيوانات بالحركة الحرة داخل غرف واسعة. فتبين له أنه لا يوجد فرق نوعي بين الوضعين التجريبيين من حيث دينامية الانعكاسات الشرطية وقوتها.
وعلى العموم فإن الهدف الذي وجه بافلوف جميع إمكانياته نحوه خلال هذه المرحلة يكمن في إيجاد الطريقة التي تمكنه من دراسة الانعكاسات الشرطية بصورة موضوعية ومعرفة طبيعتها وقياس ديناميتها وقوتها واستمراريتها بدقة.
لقد انطلق بافلوف من نظرية سيجينيف الانعكاسية وما توليه للعضلات من أهمية بالغة في نشوء مختلف المظاهر الخارجية للنشاط الدماغي. فوجد أن كل ما يكتسبه الإنسان والحيوانات الراقية من تلك المظاهر خلال حياتهم ليس سوى نتاج لما يعرف بالانعكاسات الشرطية. ومن هنا جاءت نظرته إلى الانعكاس الشرطي باعتباره الوحدة الأساسية لذلك النشاط. وفي هذا يقول: "إن الظاهرة الفيزيولوجية المركزية في ظل العمل العادي للمخ هي ما دعوناه بالانعكاس الشرطي. وهذا الانعكاس هو عبارة عن علاقة زمنية لعدد لا يحصى من نقاط البيئة المحيطة بالحيوان التي يستقبلها الأخير بحواسه مع نشاطات معينة للعضوية. وهذه الظاهرة هي ما يسميها السيكولوجيون بالتداعي "(بافلوف، 1951، ج1، 481).
اقترح بافلوف مفهوم الانعكاس الشرطي ليعبر به عن آلية النشاط العصبي المعقد. ويقابل هذا المفهوم مفهوم آخر هو الانعكاس غير الشرطي الذي يدل على الاستجابة الفطرية أو الأفعال الغريزية. ورأى بافلوف أن الانعكاسات غير الشرطية هي خاصية النوع، أي أنها تنتقل من الخلف إلى السلف داخل النوع الحيواني الواحد بالوراثة. أما الانعكاسات الشرطية فهي خاصية الفرد وحده داخل النوع. فهي تتشكل أثناء تفاعل العضوية مع الوسط المحيط. وكلما كان الوسط معقداً وسريع التقلب والتغير توجب على الكائن الحي القيام بمزيد من النشاط لتكوين الانعكاسات الشرطية. ومن هذا المنظور فإن الانعكاسات الشرطية تؤلف مجموع الخبرات التي يكتسبها الفرد خلال حياته.
غير أن بافلوف لم يفصل بين نوعي الانعكاسات، بل أكد على ارتباط الشرطية منها بغير الشرطية. وقد تجسد هذا الارتباط عنده في نظرته إلى الانعكاسات غير الشرطية كقاعدة فيزيولوجية تقوم عليها الانعكاسات الشرطية. وهذا ما أكدته التجارب التي تم خلالها تشكيل الأفعال الانعكاسية الشرطية بصورة اصطناعية. وتتحدث إحداها عن قيام تلاميذ بافلوف بتنشئة الجراء المولودة حديثاً وحتى سن محددة على تناول الحليب وحده، الأمر الذي جعل لعابها يسيل لمجرد رؤيتها هذه المادة. بينما لم تثر رؤية أي طعام آخر غير معروف بالنسبة لهذه الحيوانات أي انعكاس من هذا القبيل. وبعد ذلك بدئ بإطعامها اللحم والخبز. وتبين أنه كان يكفي أن تتكرر هذه العملية مرة أو مرتين لكي تستجر رؤيتها الطعام الجديد استجابة سيلان لعابها. وقد أطلق بافلوف على هذه الظاهرة اسم "الانعكاسات الشرطية الطبيعية". ويرجع سبب هذه التسمية إلى أن الطعام يحمل بالنسبة للعضوية صفتين أساسيتين، هما الطعم والتغذية، وأخريين ثانويتين، هما الرائحة والمظهر. ومن المعروف أن الحيوان يدرك رائحة الطعام ومظهره عن طريق حاستي الشم والبصر على التوالي. وهاتان الحاستان لا تربطهما بحاسة الذوق التي تتولى إدراك الصفتين الأساسيتين أي علاقة. ولذا فهما غير قادرتين على استدعاء أي انعكاس غذائي في البداية. وحينما يتناول الحيوان طعاماً غير معروف بالنسبة له من قبل، فإن ذلك يثير لديه الإحساس البصري والإحساس الشمّي معاً إضافة إلى الإحساس الذوقي الذي يسبب في ظهور الانعكاس الغذائي غير الشرطي بكل ما يحتويه من عناصر. ويؤدي التوافق في إثارة هذه الإحساسات عند الحيوان لدى تناوله الطعام الجديد عدداً من المرات إلى اكتساب مظهر هذا الطعام ورائحته مغزىً إشارياً، فيتحولان إلى مثيرين شرطيين للانعكاس الغذائي.
كما كشفت تجارب بافلوف ومساعديه عن آلية تشكل الانعكاسات الشرطية الهضمية على جميع المثيرات العرضية والجانبية التي ليس لها صلة بالطعام أو بعمل جهاز الهضم. ولعل التجربة الكلاسيكية المعروفة، والتي يعرف بافلوف من خلالها، تؤلف المثال الأوضح على ذلك. وخلاصة هذه التجربة هي أن تقديم الطعام (مسحوق اللحم) للحيوان (الكلب) كمنبه طبيعي يستدعي سيلان لعابه. واقتران هذه العملية (تقديم الطعام) بعد ذلك بضوء مصباح كهربائي أو صوت جرس أو لمس جلد الحيوان كمنبه ثانوي لا يثير لدى الحيوان في الأحوال العادية إلا الانعكاسات التوجيهية الفطرية (الانتباه = ما هذا؟). ومع تكرار هذا الاقتران عدداً من المرات والمحافظة على تقديم المنبه الطبيعي بعد المنبه الثانوي ببضع ثوان يتشكل الانعكاس عند الكلب (سيلان اللعاب) على المنبه الثانوي (الضوء، الصوت،…). فقد لاحظ بافلوف أن هذا المنبه أخذ يثير لدى الحيوان انعكاساً شرطياً مثلما كان يفعل الطعام به من قبل حتى ولو لم يقدم إليه هذا الأخير. وبناء على ذلك توصل إلى القول بأن هذا النوع من المنبهات (الثانوية) يتحول بعد ارتباطه الإيجابي بالطعام إلى بديل عنه أو إلى إشارة تنبئ عنه. وهكذا تكتسب سلسلة المنبهات الثانوية الخارجية والجانبية معنى الإشارة، وتكتسي أهمية حيوية بالنسبة للكائن الحي. كتب بافلوف يقول: "إن التوافق الزمني للمنبهات الجانبية مع الانعكاس غير الشرطي مرة أو عدة مرات هو الشرط الأساسي لتشكل الانعكاس الشرطي
وأكثر من ذلك فإن الأفعال الانعكاسية الشرطية الجديدة لا تتكون من خلال الارتباط المتكرر والمباشر بالأفعال الانعكاسية غير الشرطية فقط، بل وعلى أساس غيرها من الأفعال الانعكاسية الشرطية التي تكونت وتعززت في الماضي. وهذا ما يمكن ملاحظته لدى اقتران منبه جانبي ضعيف بانعكاس شرطي موجود سابقاً. ولقد أطلق بافلوف على الانعكاس الشرطي الجديد اسم "الانعكاس الشرطي من الدرجة الثانية". وعلى هذا المنوال استطاع بافلوف ومساعدوه أن يبرهنوا على وجود انعكاسات شرطية من الدرجة الثالثة لدى الحيوانات من خلال التجربة.
ولقد بيّنت مجموعة التجارب هذه أن اقتران المنبه الجانبي بالانعكاس غير الشرطي يعتبر شرطاً ضرورياً ليس من أجل تشكل الانعكاسات الشرطية فحسب، وإنما من أجل الاحتفاظ بها أيضاً. وأن عدم مراعاة هذا الشرط أو الإخلال به على نحو ما يؤدي شيئاً فشيئاً إلى ضعف الانعكاسات الشرطية وتلاشيها مهما كانت قوتها. فإذا اقتصر الأمر على عرض الطعام على الحيوان دون تناوله له عدة مرات متتالية، فإن ذلك سوف يقود حتماً إلى زوال الانعكاس الشرطي الذي تشكل في وقت سابق. وبالنظر إلى المكانة التي يحتلها الانعكاس غير الشرطي في تشكّل الانعكاسات الشرطية، فقد أطلق عليه بافلوف اسم "المنبه التعزيزي" وأطلق على عملية قرن تأثيره بتأثير المنبه الشرطي اسم "تعزيز الانعكاس الشرطي".
وفي ضوء المعطيات التجريبية وجد بافلوف أن أهم خاصية للانعكاسات الشرطية هي الموقوتية. كتب يقول: "من المشروع أن تسمى الصلة الدائمة بين النقاط الخارجية والنشاط الاستجابي الذي يردّ به الكائن الحي عليها انعكاساً غير شرطي، والصلة المؤقتة انعكاساً شرطياً. فكثيراً ما استخدم مصطلح الانعكاس المؤقت للدلالة على الانعكاس الشرطي، ومصطلح العلاقة المؤقتة للتعبير عن العلاقة العصبية التي يحدث هذا الانعكاس بفضل تشكلها. كما أن لزوال الانعكاس الشرطي طابعاً مؤقتاً. إذ يمكن أن يُستعاد في بعض الحالات بصورة مستقلة بعد مضي بعض الوقت على امحائه وزواله. وفي حالات أخرى يتطلب استرجاعه اللجوء من جديد إلى قرن المنبه الشرطي بالانعكاس غير الشرطي أو اتباع مسلك آخر.
إن مصطلحي "العلاقة المؤقتة" و "الانعكاسات المؤقتة" اللذين استخدمهما بافلوف كمرادفين لمصطلح "العلاقة الشرطية" أو "الانعكاسات الشرطية"، والتأكيد على تغير هذه الانعكاسات وصلتها الوثيقة بالشروط الخارجية، وبالحالة الداخلية للكائن الحي، أمران لا يعنيان عدم ثبات تلك الانعكاسات والارتياب بها كشكل للنشاط العصبي، أو كظاهرة غير مستقرة وغير منتظمة من ظواهر نشاط المخ. ولهذا كان بافلوف يتحدث دوماً، وكلما وجد الفرصة مناسبة، عن استقرار الانعكاسات الشرطية وبقائها فترة طويلة من الزمن تقدر بالسنوات، وبالعقود أحياناً، وقد تستمر مدى الحياة في بعض الأحيان.
وما قصده بافلوف من وراء استخدام مصطلح "الانعكاسات المؤقتة" هو التشديد على انطفاء الانعكاسات الشرطية ضمن شروط معينة. والواقع أنها لا تنطفئ، وإنما تعرقل وتكف. وهي تستطيع أن تستعيد نشاطها من جديد حالما تزول العراقيل والشروط الكافة.
وزيادة على ما قيل حول الانعكاس الشرطي، فإن ثمة ناحيتين متكاملتين تجعلان هذا الانعكاس مختلفاً عن الانعكاس غير الشرطي. فقد رأينا أن أي انعكاس غير شرطي (سيلان اللعاب، مثلاً) يتكون بتأثير عدد قليل نسبياً من المنبهات على أحد أعضاء الحس. وهذا ما يحدث عند وصول الطعام إلى الفم أو ملامسته له. بينما لا يتكون الانعكاس الشرطي في مثل هذه الشروط المحددة. إذ يمكن لأي منبه قادر على استثارة أي عضو من أعضاء الحس الداخلية أو الخارجية أن يصبح منبهاً شرطياً، يستدعي سيلان اللعاب الانعكاسي الشرطي. كما يمكن لتشكيل الانعكاس الشرطي ليس على منبهات منفصل بعضها عن بعض، بل على عدد من المنبهات المتنوعة التي تؤثر على أعضاء الحس دفعة واحدة أو بتعاقب معين. وتدعى هذه الانعكاسات بـ "الانعكاسات المركبة".
ولعل بالإمكان اعتبار الزمان والمكان منبهين شرطيين. فإذا قدم الطعام إلى الكلب كل سبع دقائق، مثلاً، تكون لديه انعكاس شرطي بعد تكرار هذا الفعل من المرات بصورة منتظمة، مع استبعاد تأثير أية منبه آخر. ويتبدى هذا الانعكاس في سيلان لعاب الحيوان عند اقتراب موعد تقديم الطعام. كما يتشكل الانعكاس الشرطي على ترتيب ووضعية مكان استعمال المنبه أو توقف تأثيره.
ومما يمكن استخلاصه في ضوء ما تقدم هو إمكانية تشكيل الانعكاس الشرطي على قاعدة أي من الانعكاسات غير الشرطية، ونشاط أي عضو من أعضاء الكائن الحي. ولقد مكنت هذه النتيجة بافلوف ومساعديه من تشكيل ودراسة الانعكاسات الشرطية على العديد من الأعضاء الداخلية كالغدد المعدية والكليتين والقلب والأوعية، والانعكاس الدفاعي الحركي، والانعكاس الشرطي على الحالة المرضية للكائن الحي وغيرها. وجاءت نتائج جميع التجارب التي أجريت في هذا السياق لتدلل على صحة ما قاله بافلوف من أن ".. العلاقة العصبية المؤقتة هي الظاهرة الفيزيولوجية الأكثر شمولية في عالم الحيوان وفي ذواتنا"
ومن خلال دراسة الانعكاسات وقف بافلوف على تباين آخر بين الانعكاسات غير الشرطية والانعكاسات الشرطية. ووجد أن هذا التباين يكمن في تموضع المحطات المركزية لكل منها. فقد بينت التجارب المخبرية أن الانعكاسات غير الشرطية تتم في جميع مناطق الجملة العصبية المركزية، في حين أن الانعكاسات الشرطية لا تتم إلا في القشرة الدماغية. وللتحقق من صحة هذه الفرضية قام بافلوف باستئصال لحاء الكلب بشكل كامل. وبعد أن أخضع هذا الحيوان للتجربة المخبرية لم ير أي أثر لوجود انعكاسات شرطية عنده. فقد زالت تلك الانعكاسات مع زوال اللحاء. وفقد الحيوان بذلك القدرة على تكوين انعكاسات جديدة.
وعلى أساس تلك المعطيات صاغ بافلوف نظريته حول الآلية الفيزيولوجية للانعكاسات الشرطية. ووفقاً لهذه النظرية فإن العلاقة الشرطية تتخذ شكل الدارة التي تصل بين نقطة التنبيه الجانبي في قشرة المخ والمركز الغذائي في البصلة السيسائية.


ولكن شكّه في صحة هذا التصور جعله يعود إلى هذا الموضوع ثانية، ويجري سلسلة جديدة من التجارب. وقد كان لمعطيات هذه التجارب الفضل في إدخال تعديلات أساسية في مخططه السابق. فأصبح لحاء المخ وحده الآن هو المجال الذي تتشكل فيه الدارة الشرطية التي تربط نقطة المنبه الجانبي بالحلقة اللحائية للمركز الغذائي المعقد. وهذا ما عبّر عنه بصورة جلية ومباشرة حين قال: "يتم تشكل العلاقة العصبية الجديدة، أي عملية الإغلاق بأكملها في نصفي الكرتين المخيتين. ففيهما لا توجد نقاط توضع المنبهات الجانبية التي لا تحصى فقط، بل والمراكز النشيطة، ممثلة الانعكاسات غير الشرطية التي تنشأ العلاقة فيما بينها"



ويبيّنبافلوف تشكل قوس الانعكاس الشرطي نتيجة اقتران الانعكاسين: الغذائي والتوجّهي (البصر) عدداً من المرات. كما يبرز العلاقة العصبية المؤقتة (الخط المنقط) التي تنشا بين ممثل المركز والمركز البصري في القشرة المخية، مما يجعل الطريق بين المركز البصري والمركز الغذائي في البصلة السيسائية (الخط المنقط والخط المتصل الممتد من ل غ حتى م غ) سالكاً أمام التنبيهات العصبية البصرية. ولقد أشار بافلوف إلى تلك الآلية بقوله: "إن الدارة العصبية هي الآلية العصبية الأولى التي نصادفها أثناء دراسة نشاط لحاء نصفي الكرتين المخيتين" (بافلوف، 1951، ج4، 46).
وهكذا أضحى الانعكاس بالنسبة لبافلوف وسيلة الأحياء للتكيف مع العالم الخارجي. فقد وجد، كغيره من علماء الأحياء والفيزيولوجيا، أن أشكال الانعكاس تختلف من حيث نوعها ودرجة تعقيدها وأهميتها الحيوية باختلاف مستوى التطور  العضوي الذي وصل إليه الكائن الحي. وتبعاً لتعقد الجهاز العصبي الذي تملكه الكائنات الحية العليا ميّز بافلوف وجهين أو مستويين للنشاط العصبي، وهما النشاط العصبي المتدني والنشاط العصبي العالي.
ويشمل المستوى الأول من النشاط العصبي الانعكاسات التي تنظم العلاقات المتبادلة بين مختلف الأجهزة والأعضاء داخل العضوية. بينما يدل النشاط العصبي العالي على الحياة النفسية. وهو يتضمن الانعكاسات التي تنظم العلاقة المتبادلة بين الكائن الحي والبيئة المحيطة به.
ويبدو واضحاً ما يؤديه كلٌّ من المستويين من وظائف ومهمات. فالأول يحقق التوافق الداخلي بين عمل الأعضاء والأجهزة ويضمن وحدة الكائن الحي وقيامه بوظائفه المتنوعة التي تعتبر شرطاً لازماً لإقامة علاقة دقيقة ومتوازنة مع العالم الخارجي. ويضطلع الثاني بمهمة اتصال الكائن الحي بذلك العالم وضمان التكيف السليم مع مستجداته ومفاجآته الدائمة، والحفاظ على وحدته وتفاعله المستمر معه. وفي هذا الصدد يقول بافلوف: "من المشروع أن ندعو نشاط نصفي الكرتين المخيتين معا لطبقة ما تحت اللحائية القريبة، الذي يؤمن العلاقات المعقدة السليمة للجسم الحي برمته مع العالم الخارجي بالنشاط العصبي العالي، أو السلوك الخارجي للحيوان بدلاً من المصطلح القديم "النشاط النفسي"، واضعين قبالته نشاط الأقسام التالية للمخ والنخاع الشوكي التي تدير بصورة رئيسية ارتباطات وتكامل أجزاء الجسم الحي فيما بينها تحت اسم النشاط العصبي المتدني"
ويتكشف عبر هذه الكلمات أن أساس الاختلاف بين النشاط العصبي العالي والنشاط العصبي المتدني يكمن في مستوى الأقسام التي تتألف منها الجملة العصبية المركزية، وليس في نوع الانعكاسات التي قد يظن البعض أن كلاً منها يؤلف قوام النشاط الذي يقابلها. ومن هذه الزاوية يصحّ القول بأن الانعكاسات غير الشرطية تسهم إلى جانب الانعكاسات الشرطية في النشاط العصبي العالي للكائن الحي. وحين يتحدث بافلوف عن هذا الإسهام، فإنه يقصره على الانعكاسات غير الشرطية ذات البنية المعقدة والتي تحمل أهمية بيولوجية خاصة تعرف عند علماء الأحياء والنفس بالغرائز والأهواء والانفعالات. فقد كتب يقول: "إن المرجع الأول للعلاقات المعقدة التي تقيمها الحيوانات الراقية، والإنسان ضمناً، مع الوسط المحيط هو ما تحت اللّحاء الأكثر قرباً من نصفي الكرتين والمعقّد من انتكاساتها غير الشرطية (حسب مصطلحنا)، والغرائز والأهواء والهيجانات والانفعالات (حسب مختلف المصطلحات المألوفة). وهذه الانعكاسات يستجرها عدد قليل نسبياً من النقاط غير الشرطية، أي المؤثرة منذ الولادة. من هنا كان التوجه المحدود في المحيط، وبالتالي التكيف الضعيف. والمرجع الثاني هو نصفا الكرتين دون الفصوص الجبهية. فبمساعدة العلاقة الشرطية والتداعي يبرز، هنا، مبدأ جديد للنشاط: تشوير عدد قليل من النقاط الخارجية غير الشرطية لمجموعة لا تحصى من النقاط الأخرى التي تحلل وتشوّر بصورة دائمة، فتمنح الإمكانية على توجهٍ أكبر بكثير في ذلك المحيط، وبالتالي على قدر أعظم بما لا يقاس من التكيف" (المرجع السابق، ج3، 475، 476). أما المرجع الثالث فإنه يتمثل في النظام الإشاريّ المركّب الذي يتميز به الإنسان عن سائر الكائنات الحية الأخرى.
وإن القول بمشاركة الانعكاسات غير الشرطية المعقدة في النشاط العصبي العالي لا يغطي كافة جوانب هذا النشاط ومستوياته. ولكي يكون الوصف أكثر شمولية ودقة يوجه بافلوف الانتباه إلى الاتجاه المعاكس للعلاقة بين نوعي الانعكاسات. ويشير إلى إسهام الأقسام العليا من الجملة العصبية المركزية، بما فيها قشرة المخ، في حدوث الانعكاسات غير الشرطية، ومشاركة الانعكاسات الشرطية أحياناً في النشاط العصبي المتدني. ويدلل على ذلك بالوقائع المتمثلة في تدخّل الانعكاسات الشرطية في مجرى نشاط الأعضاء الداخلية كالمعدة والبانكرياس والكليتين والقلب والغدد الصم، وفي تنظيم عمليات الأيض.
ولقد خصص بافلوف للعلاقة المتبادلة بين عمل العقد ما تحت اللحائية وانعكاساتها غير الشرطية المعقدة، وعمل اللحاء المخي وانعكاساته الشرطية جزءاً هاماً من بحوثه. وتوصل في النهاية إلى أنّ تلك العقد تملك الكثير من القوة والقدرة على التحمل والثبات ومقاومة الكفّ، الأمر الذي يجعل الانعكاسات غير الشرطية المعقدة التي تحدث بفضلها أساساً للنشاط الخارجي للكائن الحيّ. ووجد أنّ بمقدور لحاء نصفي الكرتين المخيتين تجاوز الخمول الوظيفي للعقد وتنظيم نشاطها بواسطة تحليل العالم الخارجي والداخلي للحيوان وتركيبه بصورة موسعة ودقيقة. وقد عبّر بافلوف عن هذه النتيجة بقوله: "بيد أن التأثير المعاكس لمراكز ما تحت اللحائية على نصفي الكرتين المخيتين أيضاً هو بالتأكيد ليس أقل من تأثيرهما عليها. فحالة نصفي الكرتين تحتفظ بنشاطها بفضل الاستثارات القادمة من المراكز ما تحت اللحائية".
وانطلاقاً من الدور الاستثنائي للانعكاسات الشرطية في النشاط العصبي العالي (السلوك) حرص بافلوف على توفير كافة مستلزمات دراستها والتعرف على آلياتها بصورة دقيقة وشاملة. وتمكن عن طريق عشرات التجارب التي أجراها مع مساعديه من الوقوف على قوانين تشكل النشاط الانعكاسي الشرطي وحدوثه، والإجابة عن التساؤلات المتعلقة بكيفية تكوّن الانعكاسات الشرطية وتدعيمها وزوالها وعلاقاتها بعضها ببعض، وتفاعلاتها وتعيين خصائص ما يجري من عمليات تنبيه وكفّ، وتحليل وتركيب في لحاء المخ. كما استطاع بفضل طريقة الانعكاسات الشرطية أن يدرس مشكلة توضع الوظائف النفسية في القشرة الدماغية، ويتتبع الأسس الفيزيولوجية للنمط والطبع والنوم الطبيعي والنوم الاصطناعي وما إلى ذلك من قضايا يطرحها النشاط الدماغي في الحالة العادية والحالة المرضية.
إن من المعروف أن العلماء قبل بافلوف وقفوا على عمليتين عصبيتين متناقضتين، ولكنهما مترابطتان ومتكاملتان، تنظمان نشاط الدماغ، وهما التنبيه والكفّ. ولدى تتبع هاتين العمليتين تبين أن التنبيه يدعم عمل المراكز العصبية الدنيا والأعضاء التي توجهها. أما الكف فيتجه اتجاهاً معاكساً، حيث أنه يضعف أو يوقف نشاط تلك المراكز عندما تستدعي الضرورة ذلك. وقد اعتبر العلماء أن العمليتين ضروريتان لانسجام النشاط المعقد الذي تقوم به أعضاء الكائن الحي على اختلاف أنواعها وتعدّد الوظائف التي تؤديها. ثم جاء بافلوف ليبيّن أنها تؤلفان محور نشاط نصفي الكرتين المخيتين، ولاسيما قشرتهما، ويكشف عن خصائص نشأتهما وحدوثهما في الأقسام العليا من الجملة العصبية المركزية. وفي هذا الصدد يقول: "إن التوازن بين هاتين العمليتين وتأرجحه في الحدود العادية وخارجها يحدّدان سلوكنا بأكمله، السليم منه والمرضي" (المرجع السابق، ج3، 12).
وتبعاً لشروط نشأة الكف يجد بافلوف أن هناك كفاً غير شرطي، وآخر شرطياً داخلياً. ويتخذ النوع الأول مظهرين اثنين، يدعى أولهما الكف الخارجي، وثانيهما الكف الخارج عن الحد. ويرجع بافلوف نشأة الكف غير الشرطي الخارجي إلى ضعف الاستجابات الانعكاسية الشرطية أو توقفها تحت تأثير المنبهات الخارجية الجانبية. فقد أظهرت التجربة أنه إذا ما تمت عملية سيلان اللعاب عند الكلب، ثم أ عقبها منبّه جانبي (ضوء، ضجة، رائحة…) فإن الفعل الانعكاسي السابق يضعف تدريجياً ويزول بعد تكرار ذلك عدة مرات. وعندما يتم التأثير على الحيوان عن طريق هذا المنبه الجانبي قبل تأثير المنبه الشرطي أو في وقتٍ واحدٍ معه، فإن الاستجابة الشرطية قد لا تظهر أبداً. ويرى بافلوف أن قوة الكفّ غير الشرطي الخارجي تتناسب طرداً مع شدة المنبه الخارجي. فكلما كان هذا المنبه شديداً، كانت عملية الكف قويةً، وظهورها سهلاً سريعاً، والعكس صحيح. ولذا فعملية الكفّ تنتهي في بعض الحالات مع توقف التنبيه الخارجي. بينما يستمر في حالات أخرى بعض الوقت. وعليه فإن مدّة بقاء هذا النوع من الكف تتراوح بين بضع ثوانٍ وعدة أشهر أو حتى سنوات.
أما الكف غير الشرطي الخارج عن الحد فإن ظهوره يرتبط بزيادة تأثير المنبه الشرطي عن الحدود المألوفة. فلما كانت الخلايا العصبية في القشرة العصبية في القشرة الدماغية تملك طاقة محددة، فإن أي منبه خارجي يقع تأثيره خارج حدود هذه الطاقة سوف لن يؤدي إلى أي تنبيه أو نشاط، بل إنه سوف يكفّ هذه الخلايا عن العمل. إن الحيوان الذي تشكل لديه فعل انعكاسيّ شرطي عن طريق سماعه لصوت متوسط الشدة، سوف لن يستجيب في المرات القادمة بنفس الكيفية إذا زادت شدّة ذلك الصوت كثيراً.
ويتشكل الكف الخارج عن الحد أيضاً نتيجة تأثير عدة منبهات غير قوية في آنٍ معاً. ويعود السبب في ذلك إلى تجاوز هذه المنبهات مجتمعة حدود قدرة الخلايا العصبية.
لقد أثبتت تجارب بافلوف وف. ريكمان أن ظهور الكف الخارج عن الحد لا يرتبط بطبيعة المنبهات الخارجية وحسب، بل وبحالة الخلايا العصبية في القشرة الدماغية واستعدادها للعمل.
وفيما يتعلق بالكف الشرطي فإنه ينشا في خلايا القشرة الدماغية ضمن شروط معينة وتحت تأثير المنبهات التي كانت من قبلُ سبباً في تشكل الفعل الانعكاسي. وهذا لا يحدث بشكلٍ سريعٍ ومباشرٍ، وإنما عقب سلسلةٍ من الإجراءات التي قد تطول أو تقصر. ويشبه هذا النوع من الكف إلى حد كبير تشكل العلاقات العصبية المؤقتة من حيث توافق المنبهات الخارجية الشرطية مع الفعل الانعكاسي غير الشرطي.
وعلى أساس الشروط والإجراءات المذكورة يمكن تقسيم الكف الشرطي الداخلي إلى: أ-كفّ خامد، ب-كفّ متأخر، جـ-كفّ تمييزي، د.كفّ شرطي.
فالكفّ الخامد يظهر حينما يتحول المنبه الشرطي إلى منبه سلبي بسبب غياب تعزيزه. وهذا ما لاحظه بافلوف على سلوك الكلب الذي اعتاد على رؤية الطعام بعد قرع الجرس (أو إشعال المصباح) بدقيقتين، مثلاً، وتوقفه عن الاستجابة في المرات التالية لهذا المنبه في حال عدم تقديم الطعام له في الوقت المحدد.
وينشأ الكف المتأخر في خلايا القشرة الدماغية بسبب تأخر عملية التعزيز. ويتجلى ذلك أثناء غياب الفعل الانعكاسي الشرطي مع بداية تأثير المنبه الشرطي، وظهوره بعد مضي بعض الوقت. وقد وجد بافلوف أن فترة التأخير هذه تتناسب مع استمرار فترة التنبيه الشرطي.
ويتكون الكفّ التمييزي نتيجة التأثير الإيجابي لمنبهٍ شرطي ما معزز والمنبهات المشابهة لـه غير المعززة. فلمّا كان الفعل الانعكاسي الشرطي ذا طابع تعميمي (أي أن تكوّنه مرهون بتأثير المنبهات الخارجية المتشابهة أو المتماثلة)، فإنه سوف لن يظهر مثل هذا الفعل إلاّ كاستجابة على المنبه الشرطي المعزز دون سواه من المنبهات الشرطية المتشابهة له والتي لم تعزز.
وبالنسبة للكف الشرطي الداخلي فإنه يتشكل في غياب تعزيز المنبه الشرطي باقترانه مع منبه آخر حتى ولو كان هذا الأخير معززاً. فقد أظهرت التجارب أن الحيوان الذي يستجيب لمنبهٍ شرطيٍّ ما معزز يكفُّ عن القيام بأي استجابة إذا ما اقترن هذا المنبه بمنبهٍ آخر دونما تعزيز.
وهكذا فإن المنبه الشرطي يفقد تأثيره الإيحائي حين يعقبه منبه ثان. ولقد أطلق بافلوف على المنبه الإضافي (الثاني) اسم "المنبه الشرطي الكاف" لقدرته على كفّ تأثير المنبه الشرطي.
إن التأثيرات المتبادلة لعمليتي التنبيه والكف لا تقتصر على الأقواس الانعكاسية التي تقابلها، بل تتجاوزها إلى مناطق أخرى. فأي تأثير على الكائن الحي لا يفضي إلى ظهور نقاطٍ أو بؤرٍ في القشرة الدماغية مرتبطة بالكفّ والتنبيه فقط، وإنما إلى جملةٍ من التغيرات والتبدلات التي تطرأ على أجزاء مختلفة من هذه القشرة. ويكمن سبب تلك التغيرات والتبدلات في انتقال العمليات العصبية من مكان ظهورها وانتشارها في الخلايا العصبية المحيطة، وحدوث حركة عكسية تتراجع فيها تلك العمليات من المناطق المجاورة والمحيطة لتستقر في مركز التنبيه. ويضاف إلى ذلك أن العمليات العصبية يمكن أن تستدعي أثناء تمركزها في نقطةٍ معينةٍ من القشرة الدماغية نشوء عملية عصبية معاكسة في المراكز المحيطة من القشرة لتتمركز بعد توقف هذه العملية عملية عصبية أخرى في نفس المركز.
وتؤلف تلك التغيرات والتبدلات العصبية ما يُعرف في الفيزيولوجيا بعمليتيّ التمركز والانتشار. وفي هذا السياق وجد بافلوف أن التنبيه والكف يخضعان أثناء حدوثهما إلى عمليات التمركز والانتشار والتحريض المتبادل. وقد لخص دور هذه العمليات في النشاط العصبي العالي بقوله: "يتعين علينا أن نفكر في أن نشاط نصفي الكرتين المخيتين، بله والجملة العصبية المركزية كلها بعمليتيها- التنبيه والكف- يوجهه قانونان أساسيان اثنان: قانون انتشار
وتمركز كلٍّ من هاتين العمليتين وقانون التحريض المتبادل" (المرجع السابق،
ج3، 462).
ويتبدى الانتشار في ظهور الكفّ أو التنبيه في أحد المراكز العصبية في القشرة الدماغية ثم انتقاله إلى مراكز أخرى من النسيج العصبي لنصفي الكرتين المخيتين. فتشكل الانعكاس الشرطي (سيلان اللعاب كرد فعل على المنبهات الجلدية، مثلاً) في منطقة معينة من مناطق جسم الحيوان يؤدي مع تكرار عملية التعزيز واستمرارها إلى تعميم (انتشار) الفعل الانعكاسي ذاته على نفس المنبهات التي تؤثر في مناطق قريبة من المنطقة الأولى. كما أن تشكل عملية الكف عن طريق عدم تعزيز المنبه الشرطي لا يقود إلى عدم استجابة الحيوان ذاته على هذا المنبه لدى تأثيره على منطقة ما من المناطق الجلدية عنده وحسب، بل وعلى المناطق القريبة منها والبعيدة أيضاً.
وبالمقابل فإن التنبيه أو الكف الذي يظهر في مركز معيّن ثم ينتشر في النسيج العصبي للقشرة الدماغية يتراجع مع مرور الزمن ويتمركز في مكان ظهوره الأول. ويمكن أن يحدث ذلك أيضاً دون اللجوء إلى الانتشار التمهيدي في حالة ما إذا كانت شدة المنبه الشرطي الذي استدعى حدوث التنبيه أو الكف عادية. وتظل هاتان العمليتان هنا داخل حدود تلك الخلايا العصبية التي ظهرتا فيها بادئ الأمر.
إن عملية تمركز التنبيه والكف في مراكز محددة من الدماغ هي أساس آلية الانتباه. فالانتباه، من وجهة النظر الفيزيولوجية، مرتبط بالإثارة العادية لمراكز محددة، الأمر الذي يخلق الشروط المناسبة لعمل الوظائف النفسية العليا (التحليل، التركيب، التذكر…).
وقد لاحظ بافلوف أن المنبه الشرطي يؤثر في مجرى الأفعال الانعكاسية التي تليه تأثيراً ذا اتجاهين. فإذا سبق الكف استخدام المنبه الشرطي الإيجابي، فسح المجال أمام ضعف أثر هذا المنبه في بعض الحالات، وزيادته في حالات أخرى. ولإيضاح ذلك نستعرض مراحل إحدى تجارب بافلوف ونتائجها بإيجاز. وفي بدايتها تم تشكيل عدد من الأفعال الانعكاسية الغذائية لدى الحيوان (ردود أفعال على منبهات جانبية: ضوء مصباح، صوت جرس، مقطع صوتي "ها"، مثلاً…) وفعل انعكاسي سلبي (كفّ) كاستجابة على منبه ما من مثل "لا". وكانت المنبهات جميعاً تقدم دوماً وفق تسلسل معين (الضوء، الرنين، المقطع الصوتي "لا" ثم المقطع الصوتي "ها") بعد فواصل زمنية محددة وثابتة. وبعد ذلك وضع الحيوان في قفص وأشعل ضوء المصباح لمدة 20 ثانية، ثم قدم له الطعام لمدة دقيقة واحدة. وبعد مرور 6 دقائق من إطفاء الضوء (أي بعد 5 دقاق من تناول الحيوان للطعام) ضغط على زر الجرس لمدة 20 ثانية، ثم قدم الطعام للحيوان لمدة دقيقة واحدة. وبعد مضي 6 دقائق من نهاية ضغط زر الجرس قدم المنبه السلبي (المقطع الصوتي "لا") لمدة 20 ثانية دون تعزيزه. وبعد مرور 6 دقائق من بداية تأثير المقطع الصوتي "لا" قدم المنبه الإيجابي (المقطع الصوتي "ها"). وخلال ذلك لوحظ أن:
أ- استجابة الحيوان للمنبه الأخير "ها" تتخذ أشكالاً مختلفة. إذ بلغت كمية اللعاب السائل في بعض الحالات حوالي 5-10 وحدات. ووصلت في حالات أخرى إلى حوالي 50 وحدة.
ب- كمية اللعاب السائل نتيجة تأثير المنبهات الأخرى تظل ثابتة أو أنها تتغير تغيراً طفيفاً (30-40 وحدة).
جـ- كمية اللعاب السائل نتيجة تأثير المنبه الإيجابي "ها" ترتبط بترتيب هذا المنبه ضمن مجموعة المنبهات الأخرى، وخاصة إذا ما جاء بعد المنبه السلبي "لا".
د- تأثير المنبه السلبي "لا" يحمل طابعاً سلبياً (تناقص الأثر المتمثل في كمية اللعاب) حيناً، وطابعاً إيجابياً (تزايد الأثر) حيناً آخر.
ولقد خصّ بافلوف ومساعدوه دراسة الآلية الفيزيولوجية لهذه الآثار المتناقضة التي تتركها المنبهات المختلفة في سلوك الحيوان بعدد من التجارب. وتبين من خلالها أن تناقض الأثر هذا يعود إلى انتشار الكف من مركز التنبيه السلبي إلى المراكز القريبة منه والبعيدة عنه، ممّا يقلل من تنبيه المركز اللحائي بالمنبه الإيجابي الذي يلي المنبه السلبي مباشرة. وقد أطلق بافلوف على هذه الظاهرة اسم "الكف المتعاقب". وبفضل تلك التجارب أيضاً أمكن تفسير زيادة أثر المنبه الإيجابي تحت التأثير السابق للمنبه السلبي بما عرفه بافلوف بالاستقراء أو التحريض الذي ينشأ تبعاً لتمركز عملية الكفّ.
واعتماداً على المعطيات التجريبية توصل بافلوف إلى أن التحريض المتبادل يرتبط ارتباطاً مباشراً بتمركز العمليات العصبية. فالتنبيه والكفّ ينتشران –كما تقدم- من مكان ظهورهما الأول ليتحولا بعد مدة من الزمن إلى نقطة البداية ويتمركزا فيها. وفي الوقت ذاته تظهر الإشارة العكسية على أطراف بؤرة التمركز. فإذا حدث تمركز للتنبيه، فسوف تنشأ عملية الكف حول بؤرته وعلى مساحة واسعة أو ضيقة من المادة اللحائية. وتتوقف شدة عملية الكفّ ومدى انتشارها على شدة التنبيه المتمركز. وهو ما سماه بافلوف بـ "التحريض السلبي".
أما إذا ظهرت عملية الكف وتمركزت في إحدى النقاط، فإن ما يلاحظ تبعاً لذلك هو انتشار التنبيه في مناطق من القشرة الدماغية، تتسع وتضيق تبعاً لشكل الكف ومستواه. وقد دعا بافلوف هذا النوع من التحريض بـ "التحريض الإيجابي".
إنَّ التحريض المتبادل، السلبي منه والإيجابي، ضروري لحياة الإنسان والحيوان. فهذه العملية تلعب دوراً هاماً في نشاطهما التكيفي مع الوسط المحيط. وبفضلها تتم العمليتان الأساسيتان في مناطق الدماغ، وهما التحليل والتركيب. وهذا ما يتجلى بوضوح في حالة انعدام التركيز مع التحريض السلبي أو الإيجابي الذي يقود إلى توقف الإنسان عن التفكير حتماً.
ولعل من المفيد أن نشير، هنا، إلى أهمية ظاهرة تناوب عمليتي تمركز التنبيه والكف في النشاط النفسي للإنسان، ولاسيما جانبه الإرادي. وهو الأمر الذي يمكن إدراكه بسهولة من خلال حياته اليومية. فالطالب يستطيع أن يوجه انتباهه مدة طويلة نسبياً إلى ما يقوله أستاذه أثناء الدرس، مما يعني أن المنطقة الحركية من مخه تكون خلال هذا الزمن في حالة كف. ولكنه ما أن يسمع صوت الجرس حتى تتحول هذه المنطقة إلى حالة من التنبيه تجعله غير قادر على متابعة نشاطه الدراسي.
ونلمسه أيضاً لدى انتقالنا من حالة النوم (الكف) إلى حالة اليقظة (التنبيه). وقد أشار بافلوف إلى أهمية هذا الانتقال وأكد على أن الوقت الذي يلي النوم مباشرة هو أفضل الأوقات وأكثرها فائدة للإنسان. فلا غرو أن نجده يصرح بأنه كان ينجز خلال ساعات ما بعد النوم من مهمات ويحل من مشكلات استعصى عليه القيام بها أو حلها في اليوم السابق.
إن عملية الانتقال المتبادل بين التنبيه والكف ذات مغزى بيولوجي بالنسبة للحيوان والإنسان. ففي حالة الانتقال من الكف إلى التنبيه يتمكن الإنسان (والحيوانات الراقية عموماً) من التوجه في البيئة وممارسة النشاط الذي يضمن له البقاء والاستمرار. وفي الحالة العكسية، أي الانتقال من التنبيه إلى الكف يجد الفرصة كيما يريح المراكز العصبية المتعبة.
وبما أن اهتمام بافلوف كان موجهاً نحو معرفة آلية النشاط التكيفي عند الإنسان والحيوان، فإن من الطبيعي أن يخص أحد جوانب هذا النشاط، ونعني النشاط التحليلي والتركيبي لقشرة الدماغ بجزء هام من بحوثه. ولقد أشار إلى دور هذا الجانب في حياة الكائنات الحية الراقية بقوله: "إن قشرة نصفي الكرتين، من وجهة نظر الفيزيولوجي، تقوم دوماً وفي آن واحد بنشاط تحليلي وآخر تركيبي. وأي وضع لأحدهما في مواجهة الآخر، أو تفضيله عليه لا يحقق النجاح المنشود والتصور الكامل عن عمل نصفي الكرتين المخيتين" (المرجع السابق، ج4، 100).
إن الأشياء والظواهر التي يعج بها عالم الإنسان أو عالم الحيوان تتصف، كما هو معروف، بصفات متعددة، بعضها خارجي وسطحي، وبعضها الآخر داخلي ومحوري. وهي تؤلف منفردة أو مجتمعة مصدر التنبيه الذي نستقبله ونرد عليه سلباً أو إيجاباً بعد معالجته، أي بعد إخضاعه إلى عمليتي التحليل والتركيب.
ولعله من النادر جداً أن يؤثر منبه واحد فقط في لحظة معينة على الإنسان أو الحيوان في مجرى الحياة اليومية. إذ أن الشيء أو الحادثة الطبيعية أو الواقعة الاجتماعية تؤثر على الإنسان في لحظة إدراكه بكل ما تحتويه من خصائص وصفات. ولهذا فإن كلاً من الإنسان والحيوان يتعامل حتى في تلك المواقف الحياتية البسيطة مع جملة من المؤثرات المتعددة أو المتنوعة دفعة واحدة (لون الموضوع وشكله وأبعاده وحجمه ورائحته.. الخ). وعليه ينبغي القول بأن فهم النشاط التكيفي الذي يقوم به الإنسان أو الحيوان الراقي يتوقف على متابعة ردود أفعال كل منهما على المنبهات المركبة والمعقدة. ومثل هذا العمل يفسح المجال أمام دراسة النشاط التحليلي والتركيبي للدماغ.
ومن الأمور الشائعة في فيزيولوجيا النشاط العصبي العالي تقسيم المنبهات المركبة إلى نوعين: المنبهات المركبة المتزامنة والمنبهات المركبة المتتالية. فالمنبهات الأولى تشمل المنبهات التي تؤثر معاً على الكائن الحي في لحظة معينة واحدة. أما المنبهات الثانية فتنتظم على شكل سلسلة يتوالى تأثير وحداتها أو حلقاتها على العضوية ويمتد في الزمان.
ولقد اهتم العلماء منذ بداية القرن العشرين على نحو خاص بالمنبهات المركبة المتزامنة. وفي هذا الميدان قاموا بدراسة تأثير الحرارة المنخفضة (درجة حرارة الجليد والتنبيه الآلي للجلد بالتزامن مع تأثير محلول حمضي خفيف على فم الحيوان). وبعد تشكل الفعل الانعكاسي الشرطي وتثبيته وفق حجم الأثر تم تقديم مجموعة من المنبهات. فتبين أن التنبيه الآلي للجلد ترك أثراً مساوياً للأثر الذي تركته مجموعة المنبهات. بينما لم تترك عملية استخدام الجليد وحده مثل هذا الأثر. ولعلنا نجد في أعمال مساعدي بافلوف وأتباعه ما يماثل هذه المعطيات.
وحيال هذه النتائج كان من المنطقي أن يمضي العلماء في بحوثهم لمعرفة الأسباب التي تكمن وراء ضعف أحد المنبهات وانعدام قدرته على التأثير رغم تعزيزه الدائم والمستمر. وخلصوا من خلال تجاربهم إلى أن استخدام منبه ما دون تعزيزه تعزيزاً غير شرطي (الحمض) يفقد أثره الإيجابي تدريجياً.
ولقد دفعت هذه الظاهرة بافلوف إلى استنتاج مفاده أن المنبه القوي الذي يدخل في مركب المنبهات يعرقل بشكل ما عمل المنبه الضعيف في إيجاد علاقة وثيقة مع مركز الانعكاس غير الشرطي. والنتيجة التي أسفر البحث عن الآلية الفيزيولوجية لتلك الظاهرة هي أن المنبهات ذات القوى المتفاوتة تستدعي في حال تأثيرها على الجملة العصبية المركزية دفعة واحدة نقاط استثارة مختلفة القوة والسرعة. فالنقطة الأكثر قوة، إذ تخلق حولها منطقة مكفوفة حسب قانون التحريض المتبادل، تكفّ نقطة نفوذ المنبه الضعيف، مما يؤدي إلى نشوء علاقة زمنية ضعيفة بينه وبين مركز الانعكاس غير الشرطي.
ولعلّ هذه المعطيات تلقي الضوء على بعض الخصائص التي يتسم بها إدراكنا. فحينما يستغرب أحدنا واقعةً اجتماعيةً ما، أو يستمتع بلوحةٍ فنيةٍ أو بلحن موسيقي، فإن ما يستحوذ عليه هو جانب من الواقعة، أو خاصية جزئية من اللوحة أو اللحن، بحيث تصرف انتباهه عن الجوانب الأخرى أو الخصائص المتبقية. وهنا يطرح السؤال التالي نفسه: كيف يمكن للوقائع الاجتماعية أو الظواهر الفنية أو الطبيعية وسواها أن تؤثر على الإنسان بصورة أعم وأشمل؟ وبصياغة أخرى: هل ثمة أسلوب يضمن الاحتفاظ بالأثر الإيجابي للمنبه الشرطي الضعيف، بل وإكسابه قوة الانعكاس الشرطي ضمن مجموعة المنبهات الأخرى التي يعمل هذا المنبه معها بصورة مركبة؟.. وللإجابة على هذا السؤال نفترض أن ضوء مصباح كهربائي باستطاعة 15 واط ساعي هو ذلك المنبه الضعيف، وأن صوت جرس كهربائي هو المنبه القوي، وأننا استطعنا تشكيل فعل انعكاسي غذائي لدى الحيوان بقوة معينة (35 قطرة من اللعاب) بعد قرن تقديم الطعام بهذين المنبهين عدداً من المرات. فإن صوت الجرس في هذه الحالة هو الذي يستدعي ظهور هذا الانعكاس. بينما يكون أثر ضوء المصباح مساوياً للصفر أو يكاد. ولنفترض أننا قمنا بعد ذلك بتشكيل فعل انعكاسي سلبي على المنبه القوي عن طريق مثير جلدي آلي. فإننا نجد أن التأثيرات المستقلة للمركب الإيجابي(الضوء الضعيف+ الصوت القوي) سوف تعطي نتائج مغايرة للنتائج التي لاحظناها في المرحلة السابقة، إذ أن تأثير صوت الجرس، هنا، سوف يضعف إلى درجة محسوسة (3 قطرات من اللعاب). في حين يزداد، بالمقابل تأثير ضوء المصباح ليصل إلى 9 قطرات من اللعاب. ويفسر بافلوف هذه الواقعة بتنامي عملية الكف الداخلي في المركز اللحائي للمنبه القوي نتيجة عدم تعزيزه واقترانه بالمنبه الجلدي (وخز الحيوان بإبرة أو دبوس، مثلاً)، وضعف الأثر التحريضي السلبي في مركز التنبيه الضعيف الذي أصبح الآن أكثر قوة مما يمكّنه من الدخول في علاقة تنبيه مع مركز الانعكاس غير الشرطي (الغذائي). وهو ما يعني تقوية مغزاه الإيجابي كإشارة.
ولئن تمت معالجة مسألة الفروق بين آثار المنبهات التي تؤلف مجتمعةً المنبه المركب بسهولة على أساس ارتباطها بقوة كل واحد من هذه المنبهات، فإن حل مسألة تأثير المنبه المركب الذي يتألف من عدة منبهاتٍ بسيطة موجهة إلى عددٍ من المحللات (المحلل البصري، المحلل السمعي، المحلل الشمي.. الخ) يتطلب جهداً أكثر وبحثاً أعمق. وما ذلك إلا لصعوبة مقارنة قوة المنبهات المختلفة (الضوء، الصوت،…) بالنظر لغياب المعيار الذي يمكن على أساسه اعتبار العناصر الخلوية لجميع المحللات متساوية من حيث خصائصها الوظيفية. وهذا ما جعل بافلوف يقف مطولاً أمام سؤال حول العامل الذي يحدّد غياب أثر أحد المنبهات أثناء عمل بقية المنبهات التي تؤثر على الكائن الحي دفعة واحدة وفي آنٍ معاً، وما إذا كان هذا العامل يكمن في قوة المنبه ذاته أم في الخصائص الوظيفية للمحللات المعنيّة.
ولقد كان بافلوف في بداية الأمر أميل إلى الاعتقاد بأن التباين في حجم الأثر الذي يتركه كل واحد من المنبهات المركبة يعود إلى تفاوت قواها وليس إلى الخصائص الوظيفية للمحللات التي توجه تلك المنبهات إليها. بيد أنه تراجع عن اعتقاده هذا فيما بعد ليعطي الخصائص الوظيفية للمحللات الأهمية الأساسية. فقد تحدث عام 1929 عن قوة حاسة السمع عند الكلاب وتفوقها على حاسة اللمس. وهذه تعد واحدةً من النتائج التي توصل إليها من خلال التجربة في تلك الفترة.
وتتمثل إجراءات هذه التجارب في تكوين انعكاس شرطي لدى الكلب على منبه مؤلف من فعلين متزامنين: البرودة والضجة الخفيفة. وبعد التأكد من تأثير كل من المنبهين تبين أن الضجة الخفيفة تُحدث أثراً لدى الحيوان، في حين أنه لم يُلاحظ أي أثر للبرودة إلا عقب سلسلة من التعزيزات اللاحقة لكلا المنبهين.
إن الكشف عن الفروق في عمل المحللات يُسهل فهم آلية تكيّف الحيوان مع شروطه الحياتية. فالحيوان، من خلال وجوده في وسط معين يخضع دوماً للتأثيرات التي تتناسب مع خصائصه. وهنا يكمن الشرط الأساسي لتطور المحللات التي تتحمل العبء الأكبر في عملية تكيف الكائن الحي.
وتعدّ العلاقة المتبادلة بين المحللات أثناء النشاط التكيفي الذي يبديه الحيوان واحدة من أهم المشكلات الفيزيولوجية وأكثرها صعوبة. وتتأتى صعوبتها من تفاوت ردود أفعال العضوية على المنبهات الخارجية المختلفة في الزمان والمكان. ففي النهار يستجيب الحيوان للمنبه الصوتي وحده بفعل توجّهيّ (الالتفات نحو مصدر الصوت). وفي الليل يستجيب لنفس المنبه استجابة مركبة. فهو يصيخ السمع ويسترقه، ويحدق ببصره ويحملق في ما يحيط بمصدر الصوت، ويتحرك بخفة ورشاقة أو يتسمر في مكانه دونما حراك. ويفسر العلماء هذا الاختلاف بين الاستجابتين بارتباك العضوية بالشروط البيئية المحيطة. ويعني ذلك أن تلك الشروط هي التي تملي على الكائن الحي اعتماده على هذا المحلل أو ذاك وتفرض، بالتالي، أنماط محددة من السلوك.
وفيما يتعلق بالمنبهات المركبة المتعاقبة فقد تناولها بافلوف ومساعدوه في دراسة وافية ومستفيضة، مستخدمين أساليب مختلفة عن الأساليب التي عرفناها حتى الآن. ففي بعض التجارب كانوا يقدمون المنبهات بصورة تتداخل فيها بعضها ببعض، فيتصل اللاحق منها بالسابق. وفي بعضها الآخر كانوا يعرضون تلك المنبهات الواحد تلو الآخر بعد فاصل زمني محدد بين المنبه والمنبه الذي يليه. وفي البعض الثالث كانت المنبهات تقدم على شكل سلسلة متلاحقة يعرض المنبه اللاحق منها في اللحظة التي ينتهي فيها عرض المنبه السابق. وفي جميع هذه الحالات كانت تتم عملية تعزيز المركبات. فتارة تتكرر المنبهات مرات كثيرة إلى أن يتطابق المنبه غير الشرطي مع فعل مختلف منبهات المركب، وأخرى يجري فيها تعزيز المنبه الأخير من المركب بشكل دائم.
وهكذا أمكن تشكيل الانعكاس الشرطي الإيجابي، وعلى أساسه الانعكاس التمييزي الذي يضم المنبهات ذاتها مع الفرق في ترتيبها، كأن يتكون الانعكاس الإيجابي على المنبهات أ، ب، جـ، د، والانعكاس التمييزي على المنبهات د، جـ، ب، أ. وفي ضوء ذلك تمكن الباحثون من الوقوف على:
1-إمكانية تشكيل انعكاس شرطي إيجابي على مركب معقد من المنبهات المتعاقبة.
2-إمكانية تشكيل انعكاس تمييزي على أساس الانعكاس السابق وباستخدام المنبهات ذاتها في أوضاع مختلفة.
3-عدم استقرار الانعكاس التمييزي وصعوبة تشكله في الحالات التي يختلف فيها هذا الانعكاس عن الانعكاس الإيجابي من حيث تعاقب الحدود الوسطى.
4-تفاوت مختلف المنبهات من حيث فعاليتها حسب أوضاعها بالنسبة للمنبّه غير الشرطي (التعزيز).
وأمام هذه النتائج وجد بافلوف نفسه في مواجهة السؤال عن الأسباب التي تؤدي بهذه المنبهات أو تلك إلى استدعاء عملية الكف طوراً، وعملية التنبيه طوراً آخر. ولقد قاده البحث عن الإجابة إلى استنتاج مفاده أن الأساس الذي تقوم عليه هذه الظاهرة يكمن في نشاط الخلايا العصبية التي تخضع للتنبيه، ولاسيما النشاط التحليلي منه. إذ أنه بفضل هذا النشاط يستطيع الحيوان من تجزئة المنبه المركب إلى عناصره ليكتسب كلٌّ منها مغزاه البيولوجي بوصفه إشارة تختلف عن المركب بوجه عام. فإذا كان المركب يستدعي فعلاً انعكاسياً إيجابياً، فإنّ عناصره، منفردة ومنفصلة، تستدعي فعلاً انعكاسياً سلبياً.
ولما كانت طاقة الخلايا في الجملة العصبية المركزية محدودة فقد رأى بافلوف أن عملية الكف مفيدة لها وضرورية لراحتها واستعادة نشاطها وتجنيبها الإرهاق الذي يؤدي إلى إصابتها بالمرض إن استمر أو زاد عن حدود تحملّها. ودفعه ذلك إلى ربط ظاهرة النوم بهذه العملية. حيث وجد أن النوم هو المدى الأقصى لانتشار الكف الذي يتعدى القشرة الدماغية ليشمل كافة الأقسام الدنيا من الجملة العصبية المركزية، أي العقد السنجابية. كما تبين له عبر العديد من التجارب أن النوم هو كف داخلي لا يتوقف انتشاره بالضرورة على عملية التنبيه.
ولقد كان هذا التصور الذي قدمه بافلوف عن النوم موضوع دراسات عديدة وتجارب كثيرة قام بها باحثون من بلدان مختلفة. وتتفق النتائج التي أمكن التوصل إليها حتى الآن حول إمكانية نشوء حالة النوم ونموّها التدريجي لتصل إلى حد النوم الطبيعي العميق بسبب التوقف عن تعزيز الفعل الانعكاسي الشرطي الغذائي الذي تشكل فيما سبق عند الإنسان أو الحيوان. ومع أخذه هذه النتائج بالاعتبار أصبح النوم يعرف بأنه كف داخلي ينشأ نتيجة انطفاء الانعكاس الشرطي المتكون سابقاً وانتشار هذا الكف في جميع مناطق القشرة الدماغية والمناطق السفلى من الجملة العصبية المركزية. ولعلّ هذا التحديد ينسجم مع ما استنتجه بافلوف ومساعدوه من أن الكف الداخلي والنوم هما عملية واحدة من حيث الأساس الفيزيو كيميائي الذي تقوم عليه كل منهما.
وفي ضوء ذلك فسّر بافلوف ظاهرة نشوء النوم عند الحيوانات التي تمّ استئصال لحاء مخها. فقد لاحظ بافلوف أن أول ما يظهر الكف وينتشر عند تلك الحيوانات في المناطق العصبية التي تقع تحت اللحاء. وبهذا حلّ الخلافات القائمة بين النظريات التي عالجت ظاهرة النوم وأسبابها. حيث وجدت إحداها أن النوم ينشأ بفعل الاستنزاف العام للخلايا إما بسبب تأثير المواد السامة على النشاط الحيوي لتلك الخلايا، أو بسبب تنبيه مراكز عصبية خاصة في منطقة المخ السّدويّ، أو بسبب الدفعات القادمة من أعضاء الحس، ولاسيما الحركية منها.
وقد تحدث بافلوف في أعماله الأخيرة عن نوعين من النوم:
أ- النوم الإيجابي أو الفعال. وهو النوم الذي ينشأ –كما تقدم- بفعل انتشار الكف الداخلي في المراكز العصبية كافة.
ب- النوم السلبي أو المنفعل. وهو النوم الذي يحدث نتيجة انخفاض قدرة اللحاء على العمل تحت تأثير المنبهات الخارجية.
إن انخفاض كمية وقوة وسرعة المنبهات الخارجية التي تستقبلها أعضاء الحس يضعف طاقة الجملة العصبية المركزية ويؤدي تدريجياً إلى حالة النوم. كما أن حالة النعاس ككفّ منتشر يمكن أن تتطور تحت تأثيرات منبهات أو مؤثرات خاصة تحمل اسم التنويم المغناطيسي. وتعتبر المنبهات الجلدية التي تحوّل الخلية العصبية من حالة التنبيه إلى حالة الكف وانتشار هذه الأخيرة في مناطق القشرة الدماغية من أكثر الظواهر التي يمكن البرهان بها على هذا النوع من النوم.
ومن المفيد أن نشير في هذا السياق إلى أن النوم لا يحدث دوماً في مركزٍ واحدٍ أو نقطةٍ واحدةٍ من القشرة الدماغية. وبما أن جميع مراكز هذه القشرة ونقاطها معرضة للكفّ، فإن من غير المهم تحديد أي منها واعتبارها الحلقة الأولى التي تبدأ منها تلك الظاهرة. غير أن ذلك لم يمنع بافلوف من اعتبار المناطق الحركية أولى المراكز التي تحل بها عملية الكف. وقد اعتمد في هذا على ما كشفت عنه تجاربه الكلاب، إذ لاحظ أن الكف يتمركز بادئ الأمر في اللسان، الأمر الذي يجعل الحيوان يتوقف عن المضغ، ومن ثم ينتقل إلى الرأس فيوقفه عن الحركة حتى باتجاه الإنسان الذي يقدم الطعام للحيوان. وأخيراً يدبّ النعاس وتتشكل في الجهاز العصبي للحيوان حالة سلبية تعبر عن انتشار واسع لعملية الكف وحلول النوم الطبيعي العميق.
ولعلّ من الطبيعي أن يخضع الانتقال من حالة اليقظة إلى حالة النوم لقوانين تغيّر النشاط الانعكاسي الشرطي عند كل من الإنسان والحيوان. وهذا ما يمكن ملاحظته بوضوح عبر مراحل النوم التي تظهر في تعاقبٍ وتسلسلٍ محدّدين.
لقد تعرضنا فما سبق للقانون الذي ينظم علاقة الاستجابة بالمنبه. ومما ذكرناه أن قوة الاستجابة تتناسب طرداً مع قوة التنبيه. فكلما كان المنبه قوياً، كانت الاستجابة التي يستجرها قويةً هي الأخرى. وبينّا في هذا الصدد أن زيادة قوة الاستجابة تبعاً لزيادة قوة المنبه لا تتجاوز حدود طاقة الخلايا العصبية في القشرة الدماغية. وحدوث ذلك، أي تجاوز هذه الحدود، يؤدي إلى تعطل العلاقات العادية والتوقف عن الردّ بوصفه مؤشراً على قوة المنبه. وعند تطبيق هذا القانون على حالة الانتقال من حالة اليقظة (التنبيه) إلى حالة النوم (الكف) يمكن ملاحظة الأطوار الثلاثة التالية:
أ-الطور الأول، وهو طور التوازن. وفيه تتساوى قوة المنبهات القوية والضعيفة.
ب-الطور الثاني، وهو طور اختلال التوازن أو التناقض. ويتسم بحالة من الكف عميقة، تصير علاقة الاستجابات بالمنبهات عكسية، حيث أن المنبه الضوئي الذي يستدعي في الحالة العادية سيلان 30 قطرة من اللعاب خلال 20 ثانية، يترك الآن آثاراً أكبر مما يتركها المنبه الصوتي الذي يستدعي في الحالة العادية سيلان 60 قطرة من اللعاب في نفس الفترة الزمنية، أي خلال 20 ثانية.
ج-الطور الثالث، وهو طور ما بعد التناقض الذي يشهد ظهور أثر إيجابي على المنبه السلبي.
وبالتداعي يجد الباحث نفسه، وهو يتحدث عن النوم، أمام ضرورة التعرف عما يتخلل هذه الحالة من نشاط غير واعٍ، أي الأحلام. فالأحلام تظهر أثناء النوم الطبيعي والنوم الاصطناعي سواء بسواء. ويتوقف ذلك على عمق عملية الكف التي يتصف بها كل من النوعين. فكلما كان انتشار هذه العملية واسعاً وقوياً (النوم العميق) تراجع احتمال ظهور الأحلام. ولعل بوسع المنوّم أن يستدعي الأحلام أثناء التنويم المغناطيسي. وتلك حقيقة أفاد الباحثون منها فأخضعوا آلية الأحلام للتحليل التجريبي. وقد تبين لهم أن طبيعة الأحلام ترتبط إلى حد بعيد بالظروف الخارجية (الفيزيقية) المحيطة بالنائم والتي تؤثر عليه. فيكفي، مثلاً، أن يهمس المنوّم في أذن المنوّم قائلاً: (إنك ستحلم)، ثم يقوم، بعد ذلك، بالتأثير عليه باستخدام منبهات فيزيائية مختلفة لكي يستدعي لديه الحلم الذي يرتبط مباشرة بطبيعة المنبه (استخدام الصفارة يجعل المنوّم يرى نفسه وكأنه يركب قطاراً أو أن يرى شرطياً ينظم حركة المرور، تقريب عود ثقاب مشتعل أو لفافة ورق تحترق يجعله يحلم بيوم صيفي حار.. الخ). بيد أن ذلك يجب أن لا ينسينا أثر العوامل الداخلية في حدوث الأحلام. فالمرض الذي يصيب أحد الأعضاء الداخلية للإنسان، أو التعب الذي يحلّ به لسبب أو لآخر غالباً ما يكونان سبباً في ظهور الأحلام المزعجة، وحتى الكوابيس.
ومن الطبيعي أن تستعيد الأحلام على نحو ما التجربة اليومية للفرد. والحلم العادي من وجهة النظر الفيزيولوجية، هو لحظة تسترجع بها العناصر الخلوية في قشرة المخ نشاطها الحيوي. كما أنه، من ناحية أخرى، يبعد تلك العناصر عن التأثيرات الخارجية ويحميها من القيام بجهد زائد وضار. وعلى أساس هذه المعطيات اقترح بافلوف طريقة "العلاج بالنوم" للتخلص من بعض الأمراض النفسية. وتتضمن هذه الطريقة استخدام وسائل تنويمية قادرة على تنويم المرضى لفترة طويلة قد تمتد إلى أكثر من عشرة أيام.
ولئن اقترن اسم بافلوف بدراسة الانعكاسات الشرطية عند الكلاب عن طريق حساب كمية اللعاب الذي تفرزه الغدد اللعابية تحت تأثير منبه ما، فإنه لا يفوتنا أن نذكر بأن هذا العالم أجرى تجارب عدة على الحيوانات الأخرى الأكثر رقياً. فبعد أن استخدم الكلاب في تجاربه على امتداد ما يربو على ثلاثة عقود، وجه اهتمامه نحو دراسة سلوك الشمبانزي معتمداً على مؤشرات غير مؤشر سيلان اللعاب، وهي المؤشرات الحركية والإدراكية. فقد تلقى هدية من الأستاذ الفرنسي فارونوف، وهي عبارة عن زوج من قردة الشمبانزي.
عرف الذكر باسم "روفائيل" والأنثى باسم "روزا". وكان عمر كل منهما حوالي ست سنوات. وفي المبنى الخاص الذي أقيم لهما كملحق تابع لمخبر التكوين للنشاط العصبي العالي شرع بافلوف بإجراء تجاربه عليهما مستخدماً المنهج الفيزيولوجي، وهو المنهج الذي لم يسبق له أن استخدمه في دراسته للنشاط العصبي العالي عند الكلاب.
ولقد أفاد بافلوف من العلماء الذين درسوا سلوك القردة الراقية، وأخذ عنهم طرائقهم في البحث، وطبقها بعد أن أدخل عليها التعديلات اللازمة. ومن بين أشهر تلك الطرائق التي أعجب بها واستخدمها بأوجه متعددة هي طريقة الغشتالتي كيولر. وفيها كان يتعقب الحركات والأفعال التي تصدر عن الشمبانزي باعتبارها مؤشرات حقيقية للنشاط العصبي العالي عند هذا المستوى من تطور الأحياء. حيث كان الحيوان يواجه عدداً من العراقيل التي يتوجب عليه اجتيازها الواحد بعد الآخر ليحصل في النهاية على الطعام، كأن يطفئ ناراً مشتعلة، ثم يختار من بين رزمة من المفاتيح المفتاح المناسب لفتح صندوق الطعام، أو يجعل من عصاوين عصا طويلة بإدخال إحداهما في الأخرى، أو يستخدم لوحاً خشبياً لإقامة جسر للعبور من إحدى ضفتي جدول ماء إلى الضفة المقابلة.. الخ.
ولم يكن قصد بافلوف من هذه المواقف الإشكالية ربط حركات الشمبانزي وأفعاله أثناء حل المشكلات المطروحة بوصفها استجابات لمنبهات خارجية مثلما هو الشأن بالنسبة لثورندايك. كما أن هدفه من وراء ذلك لم يكن اختبار الظاهرة الإدراكية الكلية أو الاستبصار الذي تمحورت حوله أعمال كيولر وغيره من أنصار الغشتالتية، وإنما الكشف عن الآلية الفيزيولوجية التي تكمن في أساس سلوك الشمبانزي والوصول إلى القوانين التي تتحكم بهذا السلوك في تلك الشروط التجريبية. وهذا ما يجسد اختلاف منطلقه عن منطلق ثورندايك والسلوكيين من جانب، ومنطلق كيولر والغشتالتيين من الجانب الآخر.
ففي الوقت الذي ركز فيه ثورندايك والسلوكيون معه اهتمامهم نحو دراسة قوانين تكون العلاقة بين المنبه والاستجابة، ورفضوا دراسة كل ما له صلة داخلية وفيزيولوجية بتلك العلاقة، انصبّت جهود بافلوف نحو معرفة ما يجري داخل الجملة العصبية قبل صدور الاستجابة. ومع إشادة بافلوف بفضل أعمال ثورندايك وبسبقه الزمني في ميدان دراسة السلوك، فإنه تجاوز بنشاطه ملاحظة الحركات الخارجية التي يقوم بها الحيوان خلال التجربة وحساب الزمن وعدد المحاولات اللازمة لتعلمه الاستجابة الصحيحة إلى البحث عن أنسب الطرائق والوسائل التي تمكنه من التعرف على العمليات العصبية التي تتوسط ردود الكائن الحي على المنبهات الخارجية.
لقد خلص بافلوف إلى القول بأن سلوك القردة في المواقف التجريبية يرتبط بالشروط الخارجية التي يوفرها المجرب. فالمهارات الحركية التي يحصل الحيوان عن طريقها على الطعام تتكون على أساس المحاولات والأخطاء. ومن الواضح أن بافلوف يتفق في هذا مع السلوكيين. ولكنه لم يجد في المحاولات والأخطاء إلا الطور الابتدائي الذي هو أحد الأطوار التي يمر بها تعلم المهارة وقد سمّاه "طور الاستجابة العشوائية". وأثناءه يقوم الحيوان بالعديد من الحركات بصورة فوضوية. وشيئاً فشيئاً يتعزز ويتحسن ما هو مفيد منها، ويوضع قيد الاستعمال في الكف المتزامن للحركات غير المجدية، وتتشكل انعكاسات شرطية حركية بسيطة ومعقدة، أي ارتباطات جديدة.

لم يكن تفسير بافلوف لتشكل السلوك الحيواني وتطوره رداً على آراء أنصار المدرسة السلوكية فحسب، وإنما جاء ليبرهن على خطأ تصورات ممثلي المدرسة الغشتالتية أيضاً. فقد زعم هؤلاء أن المهارات تولد فجأة وبشكل كامل بفعل ما يحمله الحيوان منذ البداية من تصورات ومحاكمات واستبصارات تجعله قادراً على حلّ ما يعترضه من مشكلات. وفي معرض رده على استنتاجات كيولر يقول: "إنه لم يرَ شيئاً مما أظهرته القردة في الواقع" (بيئات بافلوف، 1949، ج2، 429).
ولعل أثر التعاليم الداروينية يبدو واضحاً في تصورات بافلوف عن سلوك القردة في الشروط التجريبية والشروط الحياتية. فقد رأى هذا العالم أن المهارات المعززة أو المنطفئة، القوية أو الضعيفة، المعقدة أو البسيطة التي نجدها عند القردة تخضع لقانون النشاط الانعكاسي الشرطي. ويتبدى ذلك عبر وصفه للإمكانات الأولية الاستثنائية التي تتمتع بها هذه الحيوانات، ومنها على وجه الخصوص مرونة أيديها والأصابع الخمسة التي تملكها كل واحدة منها مما يجعلها قادرةً على التقاط الأشياء والإمساك بها وقذفها بصورةٍ شبيهةٍ بما نراه عند البشر. وفي هذا الصدد يقول: "ومرة أخرى إذا أردنا أن نناقش ونقول: أين يكمن نجاح القرد بالمقارنة مع الحيوانات الأخرى؟ ولماذا هو قريب من الإنسان؟ فما ذلكم إلا لأن لديه يدين، وحتى أربع "أيد"، أي أكثر مما لدينا نحن. وبفضل هذا يملك إمكانية الدخول في علاقات جدّ معقدة مع الموضوعات المحيطة، فتتكون لديه مجموعة من الارتباطات التي لا توجد عند الحيوانات الأخرى. وتبعاً لذلك وبما أن على تلك الارتباطات الحركية أن يكون لها أساس في الجملة العصبية، وفي الدماغ تحديداً، فإن نصفي الكرتين عند القرد تطورا أكثر مما هو الحال لدى الحيوانات الأخرى، وتطورا على نحو مرتبط تماماً بتنوع الوظائف الحركية" (المرجع السابق، 431، 432).
إن ما سجله بافلوف من أفعال روفائيل في الشروط التجريبية يعدّ، في اعتقاده، دليلاً كافياً على بلوغ هذا الحيوان مستوى معقداً من التعامل مع العالم الخارجي، الأمر الذي يتجسد في:
- قدرة القرد على بناء الارتباطات والقيام بالتحليل وتَبيّن الشروط المحيطة واستبعاد غير المناسب منها.

- قوة الانعكاس الاستكشافي عند القرد التي تبرز في قضاء وقت طويل مع الأشياء المجهولة والاهتمام بها، وإمعان النظر فيها وتفحصها وتقليبها..
- قدرة القرد على المحاكاة والتقليد، أي على تكوين علاقات عصبية مؤقتة جديدة على أساس العلاقات المتوافرة وغير المعزّزة في اللحظة الراهنة.
- الإدراك الذاتي لأعضاء الحركة المتحرر من "الحقل البصري"، خلافاً لاعتقاد كيولر.
- قدرة القرد على نقل التجربة واستخدام المهارات الحركية في مواقف قريبة من الموقف الذي تمّ اكتسابها فيه.
ومن شأن هذه الخصائص أن تجعل سلوك الشمبانزي أعلى مستوى وأكثر تعقيداً من سلوك الكلب، وتقرّبه من النشاط العملي الإنساني. ويقرر بافلوف أن الكائن الحي في هذا المستوى من التطور يملك معارف عن الشروط البيئية التي يحيا فيها. ويرجع ظهور هذه المعارف إلى علاقة الحيوان المباشرة بتلك الشروط وتفاعله الملائم معها. ولكنه يرى أن نشاط القرد لا يعدو كونه نشاطاً حسياً ومادياً تحدده الشروط الآنية التي يوجد فيها.
صحيح أن روفائيل استطاع بعد تدريب طويل أن يختار المفتاح المناسب ويفتح باب الغرفة ويدخل إليها ويطفئ لهب الكحول المشتعل على النافذة، ويخرج عبرها إلى ممر تدلى من سقفه الطعام، ومن ثم يضع الصناديق الموجودة في ذلك الممر الواحد فوق الآخر، ويصعد عليها ويحصل على الطعام. إلاّ أن جميع هذه الأفعال لا تشكل عناصر أو مركبات ما دعاه الغشتالتيون بالاستبصار، أو الذكاء المجرد الذي يعتبره بافلوف خاصية الإنسان وحده.
لقد حفزت الفروق الملحوظة في سلوك الكائنات الحية الراقية إلى دراسة النشاط العصبي عند الإنسان. وكشفت متابعته للظواهر العصبية والنفسية المرضية عن رؤية جديدة للاختلاف بين النشاط العصبي عند الإنسان ونظيره عند الحيوان. ففي أعماله المبكرة التي تناول من خلالها فيزيولوجية الانعكاسات الشرطية كانت الكلمة، بالنسبة لـه، منبهاً شرطياً، مثلها مثل الأشياء والموضوعات التي تحيط بالإنسان سواء بسواء. ومن هذا المنظور كان ينظر إلى الفرق بين سلوك الإنسان وسلوك الحيوان على أنه فرق درجي أو كمّي ليس إلا. وهذه النظرة جعلته يقترب إلى حد كبير من مواقع السلوكيين الذين أغفلوا البعد الاجتماعي والمعرفي. ولكنه رجع فيما بعد إلى هذه المسألة ليجد أن للكلمة خصائص تميّز الإنسان عن سائر الكائنات الحية وتجعله يحتل منزلة رفيعة في هذا العالم. يقول في إحدى محاضراته التي خصصها لهذا الموضوع: "بالطبع إنّ الكلمة بالنسبة للإنسان هي منبّه واقعي كسائر المنبهات المشتركة بينه وبين الحيوانات. ولكنه، زيادة على ذلك، منبّه على قدر كبير من الأهمية ليس كالبقية، وتصعب في هذا الصدد مقارنته الكمية أو النوعية مع المنبهات الشرطية عند الحيوانات. وبفضل الحياة السابقة للإنسان الراشد، فإن الكلمة ترتبط بجميع المنبهات الخارجية والداخلية التي ترد إلى نصفي الكرتين المخيتين وتشورها وتعوضها. ولهذا فهي تستطيع أن تستدعي كافة أفعال الجسم الحي واستجاباته التي تشترطها تلك المنبهات" (بافلوف، 1951، ج4، 337).
وبهذه الكلمات الموجزة يدشن بافلوف مرحلة جديدة ومتميزة من مراحل تطور نظريته. ولعل أبرز ما يكسبها تلك الصفة هو التصنيف الذي قدمه بافلوف للمنبهات الشرطية. فقد وجد أن هناك منظومتين إشاريتين، تضمّ الأولى منهما الصفات الفيزيائية والكيميائية للأشياء والموضوعات الخارجية، كالأشكال والألوان والأبعاد والأصوات والروائح… الخ. وتضم الثانية اللغة. ومن الواضح أن هذا التصنيف يحمل تأكيد صاحبه على غنى وتعقيد النشاط العصبي العالي لدى الإنسان بمقارنته مع النشاط العصبي عند الحيوانات. حيث يجد أنه إلى جانب المنظومة الإشارية الأولى التي يقوم عليها النشاط الانعكاسي الشرطي عند جميع الكائنات الحية العليا، تحتل المنظومة الإشارية الثانية مساحة واسعة من هذا النشاط عند بني البشر. وبفضل هذه المنظومة استطاع الإنسان أن يتحرر من تبعية مداركه للواقع المادي المباشر، وأن يحمل في وعيه صوراً عن هذا الواقع، ويحللها ويركبها ويعممها ويجرّدها، وأن يضع مخططاتٍ ذهنيةً لأفعاله وتصرفاته ويختبر صحتها من خلال الممارسة. وهذا ما يقف الحيوان دونه مهما بلغ نشاطه الانعكاسي من درجات التقدم والتطور. وآية ذلك أن نشاط الحيوان يخضع على الدوام للتأثير المباشر لما تحمله الأشياء والموضوعات الخارجية من صفات مادية أو للتغيرات التي تطرأ على عضويته.
وإذا استخدمنا مصطلحات بافلوف للتعبير عن هذه النتيجة، فإننا نقول بأن النشاط الإشاري المادي والمباشر يغطي النشاط النفسي أو العصبي عند الحيوانات بما فيه تفكيرنا المادي، اليدوي. بينما لا يغطي سوى جانب المعرفة الحسية في الحياة النفسية للإنسان. وأما الجانب الآخر، وهو الجانب الأهم الذي يميز الإنسان عن الحيوان، ونعني المعرفة العلمية المجردة، فإنه ينشأ ويتطور عبر النشاط الكلامي. فمع تطور الحياة الاجتماعية وتقدم النشاط العملي الإنساني "ظهرت وتطورت إلى درجة كبيرة إشارات المستوى الثاني، أي إشارات الإشارات الأولية، على صورة كلمات تلفظ وتُرى. وهذه الإشارات الجديدة أصبحت تعني في نهاية المطاف كلّ ما أدركه الناس بصورة مباشرة سواء من العالم الخارجي، أم من عالمهم الداخلي، واستخدموه ليس أثناء تجمعهم فقط، بل كل لوحده مع ذاته" (المرجع السابق، ج3، 576).
وهكذا فإن تكيف الحيوانات مع الوسط الخارجي يتمّ عن طريق المنظومة الإشارية الأولى. في حين أن الإنسان يحقق هذه الغاية بفضل المنظومتين الإشاريتين معاً.
لقد جمع بافلوف بين المنظومتين حين أطلق عليهما مفهوم "الإشارية". وفرق بينهما في الوقت ذاته بإعطاء كلّ منهما رقماً خاصاً. وبما أنّ كل منهما تشكل آلية تكيف الكائن الحي مع العالم الخارجي، فإنهما تخضعان معاً لمبدأ "التشوير". ويتجسد هذا المبدأ في أن كل تنبيه عرضي أو ثانوي يسبق التنبيه الحيوي والهام بالنسبة للكائن الحي زمنياً يصبح إشارة له نتيجة تشكل العلاقات المؤقتة. وبذا تجد العلاقات بين ظواهر العالم الخارجي وموضوعاته انعكاساً لهذا في نشاط الجملة العصبيّة، أي في تشكّل العلاقات المؤقتة المناسبة والمماثلة. وهذا ما ينطبق على نشاط المنظومتين الإشاريتين. أما الاختلاف بينهما فيكمن في أن العلاقة بين الظواهر الخارجية أثناء نشاط المنظومة الإشارية الأولى تنعكس عبر التأثير المباشر للمنبهات الخارجية (الضوء، الصوت، الرائحة،…) على الكائن الحي. بينما تنعكس هذه العلاقة أثناء نشاط المنظومة الإشارية الثانية بوساطة الكلمات، أي بالإشارات التي تعمم الإشارات الأولى. ويبدو واضحاً أن إشارات المنظومة الأولى هي المنبهات الطبيعية والمشخّصة. وقد عرفها بافلوف بأنها "الحاملات الأولى للواقع". وأن إشارات المنظومة الثانية تتمثل في الكلمة، أو كما سمّاها بافلوف "الحاملات الثانية للواقع". وبفضل المنظومة الإشارية الأولى يتمكن الحيوان (والإنسان أيضاً) من أن يعكس الارتباطات الشكلية والسطحية بين ظواهر العالم الخارجي وأشيائه. وبامتلاك الإنسان منظومة الإشارات الثانية أضحى قادراً على أن يعكس العلاقات الجوهرية بين الظواهر الطبيعية والاجتماعية. وهذا يعني أن ظهور التفكير المجرد وغيره من الوظائف النفسية العليا (التذكر والانتباه الإراديين) عند الإنسان مقترن بوجود اللغة واستعماله إياها في نشاطه العملي والاجتماعي. يقول بافلوف: "يدرك الإنسان الواقع بادئ الأمر من خلال المنظومة الإشارية الأولى، ومن ثم يصبح سيد الواقع من خلال المنظومة الإشارية الثانية (الكلمة، الكلام، التفكير العلمي)" (بيئات بافلوف، 1949، ج1، 239).
وعلى هذا النحو صارت الكلمة بالنسبة لبافلوف منبهاً شرطياً يختلف عما عداه من المنبهات، ويتميز عنها جميعاً. فهي تختزل تجربة حياتية ثرية تراكمت عبر عدد ضخم لا يحصى من العلاقات الانعكاسية الشرطية المتنوعة.
وبمقارنة الانعكاسات الشرطية التي تتشكل في مجرى نشاط المنظومتين الإشاريتين وجد بافلوف أن ما يتكون منها في نشاط المنظومة الثانية لا يحتاج إلى الوقت والجهد وعدد مرات الإعادة التي تتطلبها أثناء نشاط المنظومة الأولى. فقد أظهرت الدراسات فيما بعد أن تكرار قرن الكلمة بالموقف أو الحادثة عدداً يتراوح بين 3 و 5 مرات يكفي لتشكل العلاقة العصبية المؤقتة. بينما يستدعي تشكيل مثل هذه العلاقة عشرات المرات من التكرار على أساس المنبهات المادية. كما أثبت أن العلاقة التي تتوسطها الكلمة تكون أكثر ثباتاً ورسوخاً من تلك التي تتكون عن طريق التفاعل الحسي المباشر من العالم الخارجي. وأن استعادة الأولى بعد انطفائها تتم بشكل أسرع وأيسر من استعادة الثانية.
وعلى الرغم من الأهمية القصوى التي تكتسيها منظومة الإشارات الثانية على صعيد التطور النفسي عند الإنسان، وتنويه بافلوف بخصائص تلك المنظومة التي تجعلها تتفوق كثيراً على المنظومة الأولى ("المنظومة الإشارية الثانية تبقى المنظومة الإشارية الأولى في الخفاء دوماً")، فإن ثمة روابط قوية ووشائج متينة بين المنظومتين. ولقد أشار بافلوف إلى ذلك في العديد من المناسبات، مؤكداً أن انفصال المنظومة الثانية عن المنظومة الأولى يفقدها عملها كوسيلة للتوجه السليم في الواقع الخارجي. وفي هذا الصدد يقول: "علينا أن نتذكر أن للمنظومة الإشارية الثانية أهمية عبر المنظومة الإشارية الأولى ومن خلال العلاقة معها. فإذا ما انفصلت عنها فإنك سوف تبدو ثرثاراً ومهذاراً، وسوف لن تجد لنفسك مكاناً في الحياة. وهكذا فمع أن الإنسان العادي يستعمل الإشارات الثانية التي تمنحه إمكانية الابتكار العلمي والرقي.. الخ. فإنه سوف يستعمل المنظومة الإشارية الثانية بصورة مجدية ما دامت تتناسب مع المنظومة الإشارية الأولى…" (المرجع السابق، ج3، 318).
لقد رأينا أثناء الحديث عن تشكل الأفعال الانعكاسية الشرطية على مستوى الإشارات الأولى أن المنبهات الشرطية تتوقف عن استدعاء الانعكاسات العادية في حالة عدم تعزيز المنبهات غير الشرطية التي تليها تعزيزاً منتظماً. وهذا يبين أن التعزيز، حسب ما يرى بافلوف، يلعب دوراً حاسماً في تطور النشاط العصبي عند الحيوان والإنسان، ولا يقف هذا الدور عند حدود انعكاسات المنظومة الأولى، بل يتعدّاها ليشمل انعكاسات المنظومة الثانية. وتبعاً لذلك فإن الكلمة كمنبه تفقد مغزاها الإشاري إن هي لم تتعزز بصورة منتظمة بمنبه من المنظمة الإشارية الأولى أو عند انقطاع الصلة بين المنظومتين. يقول إ.استراتيان أحد تلاميذ بافلوف: "… التعزيز ضروري، بل هو الشرط الذي يحدد وجود التوظيف العادي حتى بالنسبة للكلمة بوصفها إشارة معمّمة من طراز جديد، ومنبه للانعكاسات الشرطية الإشارية الثانية. إلا أن التعزيز في هذه الحالة يتمّ على نحو معقد، ليس بصورة مباشرة، وإنما بصورة غير مباشرة، عبر إشارات هذا الواقع الأولية والمشخصة" (استراتيان، 1974، 277).
ومن حقّ بافلوف أن ننوه بإسهامه في نظرية أنماط الشخصية. فقد لاحظ هذا العالم أنّ سرعة تكون الانعكاسات الشرطية وقوتها وثباتها وانطفاءها واستعادتها تختلف من حيوان لآخر، وأن استجابات الحيوان على ذات المنبه تحمل طابعها فردياً. وربما يصل هذا الاختلاف إلى درجة غير متوقعة، يكاد المرء حيالها أن يرتاب في صلاحية بعض قوانين النشاط العصبي العالي. ولكن إمعان النظر في الوقائع وتحليلها مكنا بافلوف من الوقوف على خصائص العمليات العصبية في جميع الحالات المتمايزة، والكشف عن طبيعة الفروق الفردية في سلوك الحيوانات. فقد أظهرت التجربة أن ثمة أنماطاً مختلفة ومتعددة من الاستجابات التي تصدر عن الحيوانات في الشروط المصطنعة والطبيعية. فهناك كلاب تتسم استجاباتها بالمرونة والهدوء والتقبل السريع للظروف الجديدة. بينما نجد كلاباً لا تبدي مثل هذه المرونة لفترة طويلة في الشروط المخبرية غير المألوفة عن طريق القيام بشتى الاستجابات الدفاعية.
ولعل من الطبيعي أن يقيم بافلوف تصنيفه لأنماط النشاط العصبي العالي على أساس خصائص عمليتي التنبيه والكف وارتباطهما المتبادل. وفي هذا الباب بينت دراساته أن الفروق الفردية في السلوك ترجع إلى الاختلاف في قوة هاتين العمليتين العصبيتين وحركيتهما وتوازنهما. ولذا قسّم الناس والحيوانات من حيث قوة التنبيه والكف إلى نمطين: القوي والضعف. وقسم الأقوياء من حيث حركية هاتين العمليتين إلى نمطين: القوي المتوازن والقوي غير المتوازن (القابل للاستثارة، الجموح). ثم قسّم الأقوياء المتوازنين على أساس التوازن بين التنبيه والكف إلى نمطين: القوي، المتوازن، النشيط، القوي، والمتوازن الخمول.

أما الضعفاء من الناس و الحيوانات فقد لاقى بافلوف صعوبة في تعيين درجة توازن عمليتي التنبيه والكف وحركيتهما لديهم.
لقد اقدم بافلوف على تقسيم الناس والحيوانات إلى فئات أو أنماط وهو يدرك صعوبة هذا العمل بسبب كثرة سمات النشاط العصبي وتنوعها وتفاوت توزعها بين الأفراد بشكل لا يترك مجالاً للتفكير في وجود تطابق أو تماثل كامل بين اثنين من نمط واحد. ومن الواضح أن تصنيف بافلوف تأثر بتصنيف هيبوقريطس واعتمد عليه. وقد تحدث عن هذا بالتفصيل مبرزاً أوجه الشبه بين أنماط السلوك التي وقف عليها هو وأنماط الشخصية أو الطبع عند هيبوقريطس. فوجد أن النمط القوي المتوازن النشيط في تصنيفه يقابل النمط الدموي في تصنيف هيبوقريطس، وأن النمط القوي غير المتوازن يقابل النمط الصفراوي، والنمط القوي المتوازن يقابل النمط البلغمي. والنمط الضعيف يقابل النمط السوداوي.
وفي هذا المقام يتوقف بافلوف في مقاله: "الأنماط العامة للنشاط العصبي العالي عند الحيوانات والإنسان"، عند نظرية كرتشمر حول ارتباط الشخصية  بالبنية الجسمية وينتقد الأنماط العصبية التي تعتبر خلاصة هذه النظرية، فيرى أنها تقتصر على المرضى دون الأسوياء. وهذا ما يتبين من خلال عينة البحث الذي قام به كرتشمر، حيث أنها زيادة على صغر حجمها، لا تمثل سوى المرضى الذين كانوا يزورون عيادته طلباً للعلاج. ولذا تساءل بافلوف بكثير من الاحتجاج وشيء من السخرية عما إذا كان الحكم على الناس جميعاً بأنهم مرضى هو أمر مقبول من الوجهة العلمية والواقعية.
لقد قدّم بافلوف الكثير لعلم النفس، وهو الذي كان يرفض أن يكون، أو حتى يقال عنه، عالم نفس. وأمام حقيقة أن لبافلوف أثراً كبيراً في علم النفس من جهة، ورفضه أن يعدّ من رجالاته من جهة ثانية، لن يفاجأ المرء بالسؤال عن السبب الذي دفع بالرجل إلى اتخاذ هذا الموقف. فبافلوف كان شغوفاً بالفيزيولوجيا منذ صباه، وهذا ما كرس له كل جهده ونشاطه. في حين كان ينظر إلى علم النفس نظرة سلبية لسنوات طويلة، ويعتبر أن العمل فيه غير ذي أهمية. ففي أكثر من موضع أو مناسبة يستوقفنا ردّه أو اعتراضه على الأدوات والمفاهيم التي يستخدمها علم النفس وهو صاحب تشبيه السيكولوجي بالرجل الذي يسير في الظلام، حاملاً قنديلاً ذا ضوء باهت لا يضيء سوى رقعة صغيرة من الطريق. ويقرر بافلوف أن بمثل هذا القنديل يصعب إدراك المنطقة بأكملها، لاسيما إذا كانت وعرة وصعبة المسالك مثلما هو حال قوانين علم النفس. فكم من عالم في التاريخ البشري حاول السير في هذا الميدان دون أن يصل إلى مبتغاه؟. ولهذا فإن علم النفس، من وجهة نظره، لا يملك الحق في أن يكون علماً (بيئات بافلوف، 1949، ج3، 254).
غير أن أعماله الأخيرة تكشف عن تحوّل واضح في موقفه إزاء علم النفس. إذ أنه يتحدث فيها عن حق هذا العلم في الوجود، وعن أواصره القوية بالفيزيولوجيا. فالفيزيولوجيا يجب أن تُعنى ببناء قاعدة النشاط العصبي، وعلى علم النفس أن ينهض ببنيته الفوقية انطلاقاً منها. وفي ضوء هذا التحديد لمهمة عالم النفس والفيزيولوجي وموقع كل منهم يدعو بافلوف إلى وحدتهما وتعاون العاملين فيهما.



([1]) تنبع هذه الأعصاب من البصلة السيسائية، وتمتد إلى الصدر، وتنتهي في التجويف البطني. وتعصب فروعها الكثير من أعضاء الصدر والبطن الداخلية بما فيها الغدد المعدية.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire