jeudi 29 mars 2012

نظرية النمو العقلي لجان بياجيه وتطبيقاتها التربوية.



تطرق العديد من علماء النفس في نظرياتهم التي تبنوها إلى جوانب النمو العقلي عند الطفل مهم سبيرمان وجيلفورد، وأكثرهم شهرتا في ذلك العالم السويسري جان بياجيه، وهو عالم بيولوجيا في الأصل، اختبر جل الفرضيات والتجارب التي أجراها لدعم نظريته على طفلتيه، إذ انه كان يراقب سلوكهما ويسألهم ويحاورهما لمعرفة كيف ينمو ويتطور العقل لدى الأطفال. ومن خلال الكم الكبير من التجارب والبحوث التي أجراها هو وزملائه المؤيدين لنظريته ومن بعده تلامذته، يرى بياجيه إن النمو العقلي عند الطفل يمر بأربع مراحل هي:
ا- المرحلة الحسية الحركية:
  وهي المرحلة التي يستخدم فيه الطفل الأشياء المحسوسة التي يتلقاها من العلم الخارجي ويتعامل معها حركيا عن طريق يديه وعضلاته، فمثلا عندما يرى الطفل لعبة ما  يقوم بإمساكها بيديه ويحاول معرفة مكوناتها وأجزائها عن طريق محاولات تفكيكها أو تركيبها، وهذا كثيرا ما يراه الآباء ويعانون منه، سيما إذا كانت اللعبة أو الحاجة التي تصل إليها يدي الطفل غالية أو ثمينة أو عزيزة إذ معظم الأحيان نتيجة للعبث ومحاولة التعرف يودي إلى كسرها أو خرابها. يقسم بياجيه هذه المرحلة إلى عدة جوانب تتضمن:
ا- جانب المرونة العضوية:
  يتمثل هذه الجانب قيام الطفل بحركات عشوائية في البداية ثم تميل هذه الحركات الى الاستقرار هدفها الإتقان والدقة في أداء العمل، تشمل الأجزاء التي تقوم بهذه الحركات العشوائية الرأس والعينين واليدين والقدمين، فمثلا إمساك الطفل في البداية بالرضاعة يكون عن طريق الحركات العشوائية وغير المنظمة،ثم بعد ذلك تستقر عملية الإمساك بها بشكل منظم ومتقن كلما تقدم الطفل بالعمر. هذه المرونة العضوية ترتبط بعلاقات ايجابية مع الجهاز العصبي من خلال تطور عمل هذا الجهاز مع نمو الطفل بشكل مستمر.
ب- جانب التكيف الداخلي:
 يتضمن هذا الجانب قيام الطفل بتكييف أعضاءه الجسمية لتستجيب للمنبهات الخارجية التي يتعامل في بداية عمره معها عن طريق الفم، فمثلا تحريك الشفتين وعضلات الفم التي يمكن ملاحظتها على الطفل بشكل واضح متوافقة مع إفرازات الغدد اللعابية هي مؤشرات لتكيف أعضاء الجسم التي تتعامل مع الطعام الذي يقدم للطفل، وهذه العلاقة بين المنبه الخارجي والأعضاء التي تتعامل معه أيضا ترتبط بنمو وتطور الجهاز العصبي عند الطفل.
ج- جانب الموائمة:
 يتضمن ها الجانب موائمة الطفل بين الحركات العشوائية التي يقوم بها والمؤثرات البيئية التي يواجهها، ينتج عن هذه الموائمة إدخال أنماط جديدة من التفكير تجعل من الطفل أكثر استقرارا مع البيئة المحيطة.
د- جانب الترابط بين الحس والحركة:
 يتضمن التوافق بين حركات الطفل مع إحساساته بحيث يتمكن من الحصول على الأشياء من البيئة التي تتلاءم مع إحساساته الداخلية، فمثلا رفض الطفل الأطعمة المرة أو المالحة واتجاهه لتناول الأطعمة الحلوة هو دليل على ترابط ما بين حركاته وحاسة الذوق عنده.
   إن جميع هذه الجوانب تعمل على تكوين الجانب الحسي الحركي، والذي يعده بياجيه مظهرا من مظاهر النمو العقلي عند الطفل.
2- مرحلة ما قبل العمليات:
 وفيها لا يستجيب الطفل للمعلومات البيئية المختلفة بطريقة حسية حركية مباشرة، بل يعمل على ترميزها وتشفيرها ومن ثم توظيفها بوصفها خبرات سابقة يستفيد منها في التعامل مع المعلومات المستقبلية التي يواجهها، فمثلا عندما يتمكن الطفل من نسج قصة من خياله أو يتمكن الطفل من معرفة إن الطيور تشترك فيما بينها بخاصية الطيران ويعمم هذه الحقيقة يكون قد دخل في هذه المرحلة، والتي عادة ما تظهر عند الطفل بعمر من 2-7 سنوات.
3- المرحلة المادية: 
     وفيها يتمكن الطفل من تطبيق الأشياء المحسوسة ومقارنتها، فمثلا يستطيع أن يربط ما بين العناصر المتشابهة في مجموعتين مستقلتين من حيث الشكل واللون. تظهر هذه المرحلة عند الطفل من عمر 7-12 سنة.
4- المرحلة المجردة:
 وفيها يتمكن الطفل من إدراك المفاهيم المجردة، فمثلا عندما يتمكن الطفل من معرفة مفهوم العدالة والصدق والأمانة، ويربط هذه المفاهيم بمواقف محسوسة يكون قد دخل في هذه المرحلة، والتي عادة ما تظهر من عمر 12 سنة فما فوق.
   إن تلك المراحل التي تطرق لها بياجيه في نظريته ومن خلال التجارب والدراسات التي أجراها هو وتلامذته كان يستهدف من وراءها استخدام أفضل الوسائل التربوية التي يمكن التعامل بها مع الأطفال، وتمثل ذلك عن طريق فهم المرحلة العمرية التي يكون الطفل فيها والمعلومات التربوية التي تناسبها، فمثلا لا يمكن لنا أن نعلم الأطفال في عمر من 3-10 سنوات المفاهيم المجردة مثل الصدق أو الأمانة أو الحرية وغيرها من المفاهيم المجردة إلا من خلال استخدام أساليب تربوية تتضمن فيها هذه المفاهيم وتحاكي عمر الطفل مثل استخدام القصص أو الحكايات المصورة أو التوجيهات التربوية المباشرة لأمثلة محسوسة في حياة الطفل، وبالتالي فان الأمر يتطلب من التربويين والقائمين على العملية التربوية فيما إذا أرادوا النجاح في تحقيق الأهداف التربوية المبتغاة بتطبيق مبادئ هذه النظرية، أن يولوا أمرين جل اهتمامهم هما: عمر الطفل وطبيعة المادة التربوية التي يريدون نقلها له، فإذا كان هناك تناسب طردي بينهما يكون الهدف التربوي واضحا وقابلا للتطبيق، بما يعطي نتيجة تربوية ملموسة، وهو بالتأكيد يصب في خدمة الهدف العام من العملية التربوية التي يسعى جميع التربويون ويحرصون اشد الحرص على نقلها بأساليب علمية حديثة ومناسبة للأجيال اللاحقة، مواكبة لطبيعة العصر والمرحلة الحضارية والعلمية التي تتقدم بشكل متواصل ومطرد في عالم دائم التغيير والتجديد، هذا التوافق التربوي هو أنبل غاية للتربويين على مدى العصور.                                      
ونقصد بالتطور الذهني مجموع المراحل المختلفة (مراحل النمو) التي ينتقل فيها تفكير الطفل من حالة الغموض و البدائية إلى حالة المنطق والوضوح في المفاهيم و الإدراكات. فالطفل في الأشهر الأولى من حياته يلعب بأصابع قدميه وكأنه يلعب بشيء خارج عنه لا يخصه. و يبقى الطفل حتى حدود الثامنة يعتقد أن القمر يرافقه أو يمشي معه وأن القمر له أقدام يمشي عليها وأن الدمية تشعر و تحس، لذا نرى الطفل يعانق الدمية حتى تنام. كل هذا يدل على أن تفكير الطفل يختلف تماما عن تفكير الراشد. وقد أظهر علماء النفس الفروق القائمة من هذه الناحية بين الطفل و الراشد. فالطفل لا يمكن اعتباره  رجلا صغيرا كما كان يعتقد الناس قديما.. إن للطفل عالمه الخاص و مفاهيمه الخاصة وهو لا يدرك الأشياء كما ندركها نحن الكبار. و هذا يعني أن تفكير الطفل يمر بمراحل متعددة ومتدرجة حتى يصل فيها إلى مستوى الوضوح و المنطق والموضوعية... وسنحاول أن نلقي الأضواء على عقلية الطفل حسب نظرية "بياجيه" عالم الطفولة الشهير، ونتكلم عن مراحل تطور الذكاء، واختبارات بياجيه التي استخدمها لدراسة تفكير الطفل.
أ‌-  مفهوم الأنوية (Egocentrisme)
ماذا نقصد بالأنوية و كيف تظهر في فعاليات الطفل و عملياته الذهنية؟
إن الأنوية هي حالة ذهنية تمتاز بعدم القدرة على التمييز أو التفريق بين الواقع والخيال، بين الذات و الموضوع، بين الأنا والآخر أو بين الأنا والأشياء القائمة في العالم الخارجي... فالطفل يجهل نفسه و جسمه و لا يعرف الزمان و المكان والسببية القائمة بين الأشياء أو الظاهرات الأخرى. فهو يعبث مثلا بأصابع قدميه و كأنه يلعب بشيء خارجي منفصل عنه. انه يميل إلى الدمجية أي انه يدمج نفسه مع الآخرين و الأشياء وهو لا يميز مثلا صوته عند البكاء و صوت طفل آخر...
فقد يتوقف عن الحركة إذا سمع صوتا أو بكاء ثم يبدأ هو بالبكاء و لا يعرف إذا كان هذا الصوت هو صوته أم صوت غيره...
إن الأنوية تظهر في مختلف فعاليات الطفل و تصرفاته : في كلامه، في تفكيره، في إدراكه لنفسه والعالم الخارجي...  و هذه الأنوية يعتبرها بياجيه ظاهرة ابيستيمولوجية، أي حالة ذهنية ناجمة عن تقصير الطفل في مداركه العامة... وهنا يمكن التحدث عن الأنوية الفكرية التي تعتبر الأساس في الاستقطابات الذاتية المختلفة. ولكي نأخذ فكرة واضحة عن الأنوية، نتصور رجلا يعيش منذ ولادته في منطقة جبلية (قرية) لم يذهب يوما خارج حدودها.  من ناحية المعرفة الفيزيائية، هذا الرجل عرضة لكثير من الأوهام و التفكير الخاطئ. فهو يعتقد بأن قمة الجبل القريب منه هي أكثر ارتفاعا من قمم الجبال الأخرى البعيدة عنه، وهو يعتقد أن العالم أو الكون صورة مصغرة عن هذه البيئة التي يعيش فيها، وهو أكثر من ذلك يعمم أفكاره  ومداركه بالنسبة لبقية الأشياء انطلاقا من هذه البيئة الضيقة... فهو محور هذه المنطقة، وهذه المنطقة هي محور تصوراته ومداركه... ومن ناحية مداركه الاجتماعية، يعتقد أن الرجل أو المسافر القادم من مدينة مجاورة هو بمثابة غريب أو أجنبي. والأديب أو المفكر القادم من المدينة إلى هذه المنطقة للراحة أو الاستجمام ينظر إليه و كأنه إنسان كسول... فأحكامه على الآخرين وتقديره لهم مرتبط بفعالياته الشخصية.
ومن ناحية معرفته لنفسه، انه يجهل ذاته دون علم منه لافتقار تجاربه ومداركه الموضوعية... فهو يعتقد بنفسه بأنه أكثر شأنا ونشاطا من السائح والعالم والأديب.
يلاحظ من هذا المثال أن الرجل المذكور يستقطب كل شيء إليه، ويحاول تقييم الأشياء والأشخاص بالنسبة لمفاهيمه الشخصية –– هذا النوع من التفكير يعرف بالاستقطاب الذاتي أو المحورية الذاتية. وهذا يظهر في تصورات الطفل للعالم الخارجي و علاقته مع الآخرين وتصوراته لنفسه وكذلك في اللغة والتفكير وفي المنطق والمحادثة والحكم الأخلاقي.
(1) الأنوية و تصور العالم الخارجي  (الأنوية الفيزيائية)
إن تصور الطفل للعلم الخارجي (الأشياء و الظاهرات الطبيعية) يبقى مغلفا بالغموض حتى حدود السابعة. فالسببية الفيزيائية تبقى بعيدة عن مداركه التي تقترب من المفاهيم البدائية والميتولوجية أو الخرافية... ولهذه الذهنية صفات متعددة نوجزها في ما يلي :
أ‌-الإحيائية (Animisme): والإحيائية تعني أن الطفل يعطي الحياة والشعور للأشياء الجامدة والمتحركة... فالشيء الخارجي يبدو له وكأنه مزود بالحياة والشعور والقصدية. فالمطر كائن حي يسقط وهو يريد ذلك... والشمس تشرق علينا و هي تعرف ذلك و تريد أن تشرق... والقمر يلاحقنا وهو يعرف ذلك... وقد سألت طفلا في السادسة والنصف من عمره عن المطر وكيف يتكون فقال : من الغيوم. من قال لك ذلك ؟ أختي.  وأنت ماذا تقول؟ أنا كنت أعتقد أن الله يفتح من فوق السماء الحنفيات، و هكذا يسقط المطر على الأرض... وقال عن الشمس بأنها تمشي على أقدامها ولكنه لم ير تلك الأقدام لأنه لا يستطيع أن يحدق بها... وقال عن الشمس في طقس غائم : إنها بردانة وهي تريد أن تنام...
وقد توصل بياجيه من خلال ملاحظاته و أسئلته مع الأطفال إلى تحديد أربع مراحل للإحيائية تتطور خلالها مدارك الأطفال عن مفاهيم الشعور والحياة المرتبطة بالأشياء . ومن الأسئلة التي طرحها بياجيه في هذا المجال : إذا وخزتك بدبوس، هل تشعر بشيء ما ؟ و إذا أجاب الطفل نعم أو لا، يجب أن نقول له : لماذا نعم أو لماذا كلا؟ ... الخ... وهذا السؤال يمكن تطبيقه على أشياء أخرى مماثلة...
في المرحلة الأولى التي تمتد حتى السادسة أو السابعة، يمنح الطفل الشعور لجميع الأشياء التي تترافق بنشاط ما وحتى الأشياء الجامدة ( الحجر الذي يتدحرج مثلا) فالحجر يتمتع إذن بالحياة والشعور في حال تحركه.. وهو عدا ذلك لا يشعر بشيء... فالحجر الذي نضربه على الأرض بقوة يشعر بالألم حسب اعتقاد الطفل وعندما تنتهي حركاته لا يشعر بشيء.  فهذا طفل في السابعة والنصف من عمره يجيب : إذا وقعت حصاة على الأرض، هل تشعر بشيء؟
نعم  لأنها تنكسر. والطاولة هل تشعر بشيء؟ كلا. وإذا انكسرت. نعم ... فالطفل يمنح الشعور لكل شيء و خاصة إذا كان هذا الشيء في حالة نشاط أو مقاومة... وهذا يعني أن الشعور مرتبط بحركة الشيء ومقاومته حتى ولو كان أصلا جامدا...
في المرحلة الثانية ينتقل الشعور إلى الأشياء المتحركة فقط . وهذا يعني أن الأشياء الجامدة لا تدلّ على الحياة بالنسبة للطفل . وتمتدّ هذه المرحلة من السابعة حتى التاسعة تقريبا . فالشمس والدراجة أشياء تتمتع بالشعور والحياة بينما الحصاة و الطاولة تفتقر إلى الشعور والحياة ... وهذا يعني أن الشعور قد أصبح الآن مرتبطا بالأشياء المزودة بحركة دائمة وليست مؤقتة ... فالغيوم والنجوم والأنهار والنار والدراجة والسيارة كلها أشياء تحمل معها الحياة والشعور لأنها متحركة بطبيعتها ... والشمس تعرف أنها تضيء وتعطينا الحرارة وتعرف ساعة تشرق وتغيب ... والهواء يعرف أنه ينفخ وهو يريد ذلك . ويمكننا القول بأن الشعور في هذه المرحلة مرتبط بالأشياء المتحركة أي بالفعل أو الحركة المقصودة .. فالشمس تعرف أنها تشرق علينا وهي تريد ذلك.
في المرحلة الثالثة، يستمر مفهوم الشعور و الحياة بالنسبة للأشياء المتحركة ولكنها الأشياء المتحركة بذاتها وليست المتحركة من الخارج كالدراجة مثلا . إن مياه النهر أو الساقية تتحرك بذاتها ... وكذلك النيران والمطر والشمس . والطفل في هذه المرحلة ينفي قضية الشعور والحياة بالنسبة للأشياء الجامدة والتي تتحرك في بعض الحالات ( بفعل القوى الخارجية) مثل الحجر الذي يتدحرج ثم يتوقف...
في المرحلة الرابعة والأخيرة التي تمتد من العاشرة حتى الثانية عشرة يحدث تطور هام. فالشعور والحياة مرتبطان الآن بالكائنات والمخلوقات الحية أي الإنسان والحيوان ... والطفل يرفض إعطاء الحياة والشعور للقمر والشمس والهواء ... لأنها ليست كائنات حية . وهذا يدل على أن تفكير الطفل يمر بمراحل متعددة ومتدرجة حتى يصل إلى مستوى الوضوح والمنطق ... ففي البداية هناك الغموض أو الاستقطاب الذاتي الذي يسيطر على تفكير الطفل .
ينتج مما تقدم أن تصور الطفل للعالم وخاصة للظاهرات الطبيعية يرتبط في البداية بالقانون أو السببية الأخلاقية أو الإرادية ... فالشمس تشرق لأنها تعرف وتريد ذلك وتحب أن تمنحنا الدفء والحرارة، والقمر يريد أن يرافقنا ... وهذه الحتمية الأخلاقية المرتبطة بإرادة الأشياء تتلاشى تدريجيا بعد العاشرة لتحل محلها السببية الفيزيائية أو السببية شبه العلمية أو الموضوعية.
ب‌-الاصطناعية : ((Artificialisme: إلى جانب الإحيائية، هناك الاصطناعية، أي أن كل شيء مصنوع من كذا أو بواسطة كذا . ويعتقد الطفل بأن الأشياء قد صنعها الله أو إنسان كبير جبار أو أن الأشياء قد صنعت نفسها بنفسها كما سنرى ذلك في أحاديث الأطفال . فالجبال مثلا صنعها الله أو إنسان جبار أو أنها تكوّنت من تراكم الحجارة والأتربة ... وإذا سألنا الطفل عن أصل الليل فقد يجيب بأنه عبارة عن هواء أسود ينتشر و يتبخر . فالغيوم من الهواء وكذلك القمر والنجوم ... والماء من الغيوم ... والمطر ثلج يذوب ... والثلج كتلة من الغيوم ... والنار من الشمس والشمس من السماء ...
ويحدد بياجيه ثلاث مراحل في تطور مفهوم الطفل عن الاصطناعية. في المرحلة الأولى يربط الطفل مصدر الأشياء بقوة بشرية أو إلهية ... والله عنده بمثابة إنسان جبار قادر و قوي ... ويسأل بياجيه طفلا في التاسعة والشهر الرابع عن مصدر الشمس . " كيف تكوّنت الشمس؟ من النار! وأين كانت النار في السماء . كيف بدأت النار ؟ انه الله الذي أشعلها في الحطب والفحم . ومن أين جاء بالحطب والفحم؟ هو نفسه صنع ذلك . وكيف كونت النار الشمس" . وهناك أطفال يربطون مصدر الشمس بقوى بشرية ... أي أن هناك إنسانا قد صنع الشمس وأشعل النار.
في المرحلة الثانية، وتمتد من السابعة حتى التاسعة، يتطور مفهوم الاصطناعية عند الطفل الذي يربط مصدر الأشياء بأسباب طبيعية . فالنار تولدت من البراكين والجبال من تراكم الحجارة والأتربة . ونسوق هنا هذا المثل من كاتب بياجيه تصور العالم عند الطفل : كيف تكون القمر؟ –– الشمس صنعته –– كيف؟ –– بنارها –– من أين جاء القمر؟ –– من وراء الجبل –– ماذا كان يوجد هناك ؟ –– الشمس –– من أين جاءت الشمس؟ –– من الجبل –– كيف بدأت؟ –– بالنار . –– والنار كيف بدأت؟ –– بعود الثقاب –– والجبل؟ –– من التراب والرجال صنعوه ... وبالنسبة للغيوم يعتقد الطفل بأنها تولدت من مخان المنازل والأفران .
من الملاحظ أن الطفل في هذه المرحلة يربط مصدر الأشياء بأسباب طبيعية ... أي هناك أشياء تولدت من أشياء أخرى ... وليس بقوى إلهية أو بشرية كما كانت هي الحال في المرحلة الأولى .
في المرحلة الثالثة، والتي تمتد من العاشرة حتى الثانية عشرة، يربط الطفل مفهوم الاصطناعية بأسباب طبيعية أيضا ولكن مع وضوح أكثر في المفهوم والتفسير . والطفل يعتقد أن الشمس أصلها هواء ملتهب ... وأن القمر مصدره الهواء وأن الغيوم من الهواء أيضا ... فالطفل في هذه المرحلة يربط مصدر الأشياء بأسباب طبيعية بحتة ... فالغيوم ليس مصدرها دخان المنازل والمعامل والأفران (بشرية) بل الهواء (سبب طبيعي) ولكن تفسيره للأسباب الطبيعية يبقى بعيدا عن السببية العلمية ...
هذه المراحل التي ينتقل خلالها الطفل من الغموض إلى الوضوح والمنطق تنطبق أيضا على تفسيرات الطفل للظاهرات الطبيعية الأخرى مثل الليل والمطر والغيوم والجبال ...
في البداية، يعتقد الطفل بأن الليل من صنع الله وأن الليل موجود لكي ننام، وفي المرحلة الثانية يربط الطفل مصدر الليل بأسباب طبيعية غامضة ... فالليل هو غيوم سوداء أو هواء أسود ينتشر و يتبخر، وفي المرحلة الأخيرة يربط الطفل الليل بأسباب طبيعية معقولة كاختفاء الشمس ... وبالنسبة للغيوم، يعتقد الطفل أيضا بأنها عبارة عن مواد صلبة صنعها الله أو الإنسان (حتى السادسة)، وفي المرحلة الثانية (7-9) الغيوم مصدرها دخان المنازل والمصانع، وفي المرحلة الأخيرة تنجم الغيوم عن الهواء والرطوبة والبخار والحرارة ... وبالنسبة للمطر، يعتقد الطفل في المرحلة الأولى بأن المطر هو ماء يسقط من السماء، من عند الله ( حنفيات)، وفي المرحلة الثانية يربط الطفل المطر بالغيوم المتصاعدة من المنازل والتي تذوب في الجو تحت تأثير الحرارة، وفي المرحلة الأخيرة يربط الطفل المطر بالغيوم ولكنها ليست الغيوم الصاعدة من الأرض بل الناجمة عن أسباب طبيعية ... وبالنسبة لولادة الأطفال نلاحظ أن الطفل قد يطرح على أهله بعض الأسئلة المتعلقة بمصدر الأطفال و هناك مرحلتان . في المرحلة الأولى تتناول أسئلة الطفل المكان الذي كان فيه الطفل سابقا . وفي المرحلة الثانية تتناول الأسئلة كيفية نشوء الطفل .. وهذا يعني أن الطفل يبحث في البداية عن العلاقة القائمة بين الطفل وأهله وكيف حصلوا عليه وأين كان قبل ذلك، هل في الغابة أم عند الله؟ اذ يفترض الأطفال أن الطفل موجود مسبقا . وفي المرحلة التالية يبحث الطفل عن كيفية نشوء أو ولادة الأطفال وأن الأهل هم في صميم هذه العملية . زهنا نلفت نظر الأهل إلى أهمية هذا التطور في نشوء الأطفال، إذ يجدر بالأهل أن يتفهموا أن الطفل لا يطلب حتى السادسة التفسيرات العلمية أو التفاصيل حول ولادة الأطفال . فقد يكتفي بجواب بسيط لأن تفكيره لا يهضم القضايا المعقدة باعتبار أن الغموض يسيطر على تفكيره .
ج- الواقعية عند الطفل (Réalisme)
كيف يدرك الطفل الواقع وهل بإمكانه التمييز بين نفسه والواقع؟ ان ملاحظات بياجيه وأبحاثه تدل على أن الطفل يدرك الأشياء عن طريق تأثيرها الظاهر أو نتائجها المحسوسة ولا يربطها بأسبابها الحقيقية، فهو يكتفي بالفعل المحسوس كما هو و يتقبله عفويا دون تحليل أو تفسير معقول ذلك أن الأنوية تشكل الحجر الأساسي في تفكير الطفل ... ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك بالنسبة لتصورات الطفل حول فعل التفكير، والأسماء والأحلام و كيف يربطها بأسباب ظاهرية سطحية.
فعل التفكير:
نسوق هنا بعض الأمثلة التي سجلها بياجيه في دراساته عن الأطفال . (دراسة طفل في السابعة).
–– هل تعرف ماذا تعني كلمة فكّر؟ نعم . هل تريد أن تفكر في بيتك؟ نعم . كيف تفكر؟ –– بالفم . –– هل تقدر أن تفكر والفم مغلق؟ كلا. –– أغلق فمك و فكر في بيتك . هل تفكر ؟ نعم. –– إذن كيف تفكر؟ –– بالفم ...
نلاحظ من خلال هذا المثل أن الطفل يربط فعل التفكير بحركة الفم، فالتفكير يترافق بالصوت والكلام ... وهو يعتقد أن الإنسان لا يستطيع التفكير وفمه مغلق لأن ذلك لا يترافق بالكلام . هذه المرحلة تمتد حتى السابعة أو الثامنة حيث تبدأ المرحلة الثانية و خلالها يعتقد الطفل بأن فعل التفكير مرتبط بالرأس أو الدماغ ولبس بالفم ... وهذه المرحلة تمتد من الثامنة حتى العاشرة . فالتفكير صوت صادر من الدماغ أو الرأس أو الحنجرة . أما في المرحلة الثالثة التي تبدأ بعد العاشرة فإنها تدل على تطور هام، إذ أن الطفل يحرر فعل التفكير من الإطار المادي (الفم – الدماغ – الرأس – الأذنان ...) بحيث يصبح شيئا ذهنيا لا يمكن لمسه . وهنا نسوق حديثا مع طفل في الحادية عشرة من عمره :
أين هو التفكير ؟ –– في الرأس –– إذا فتحنا الرأس، هل نرى التفكير؟ –– كلا –– هل نقدر أن نلمسه ؟ كلا –– هل نشعر به كالهواء ؟ –– كلا ...
الحوار عند الطفل
وهنا نشير إلى أن نسبة الحوار بين الطفل والآخر تبقى منخفضة، فهي تتراوح بين 16% (مع الكبار) و 23% مع الصغار. وهذا حوار بين طفلين (3 سنوات و 4  سنوات).
–– انظر سكة الحديد التي تصل إلى السماء.
–– كلا لا يوجد سكة حديد.
–– أجل يوجد سكة حديد.
–– كلا لا يوجد سكة حديد في السماء، الله ليس بحاجة إلى ذلك.
–– هذا الإبريق لي . ( وقد أمسك به).
–– كلا. أنا بحاجة إليه.
–– أنا يجب أن أشرب منه.
–– أعطني الإبريق سأضع فيه ورقة ...
إن حوار الأطفال كما هو ملاحظ ما يزال بدائيا بعيدا عن المنطق والاستمرار. فالطفل ينتقل من موضوع إلى آخر دون وجود مبرر أو ترابط بين الأفكار والأشياء. وبعد السادسة أو السابعة، يصبح الطفل قادرا على المحادثة والتركيز على موضوع معيّن. وهنا نسوق هذه المحادثة التي جرت بين بنت في السابعة وصبي في السادسة. (المعلمة غائبة) :
–– إنها لا تعرف إنها تأخرت!
–– أنا أعرف ما بها .
–– أنا أعرف أين كانت.
–– كانت مريضة.
–– كلا. ليست مريضة لأنها ليست هنا.
يذكر بياجيه أن 47% من أحاديث الأطفال بين الخامسة والسابعة كانت مغلفة بالأنوية، وهذه النسبة تصل إلى 60% عند الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثالثة و الخامسة. وهذه الأحاديث عبارة عن شبه محادثة أو مونولوج جماعي بحيث يتحدث الطفل مع الآخرين وكأنه يتحدث إلى نفسه دون أن يراعي أو يعي رغبات الآخرين أو أفكارهم ودون أن يكون هناك ما يسمى بالأخذ والردّ. فالطفل يرد على الآخر و يتكلم انطلاقا من مفاهيمه و مشاعره الذاتية ... وهذا يعني أن تفكير الطفل يمرّ بمراحل متدرجة ... فالمناقشة مثلا لا تحدث قبل السابعة أو الثامنة بحيث يفهم الطفل رأي الآخر و يحاول أن يرد عليه. والأنوية ترتبط بانعزالية الأنا و باعتقاد الطفل بأن التفاهم حاصل بينه وبين الآخرين. و قد قام بياجيه بتجارب شيقة في هذا الشأن على 50 ولدا تتراوح أعمارهم بين السابعة و الثامنة، و طلب منهم إعادة قصة بالإضافة إلى شرح ميكانيزم الدراجة أو الحنفية أو غيرها كما سنرى لاحقا.. كل هذا يدلّ على أن تفكير الطفل يختلف عن تفكير الراشد. وهذا التفكير يتأرجح بين التفكير الانعزالي أو المرضي (Autisme) وبين التفكير المتدامج اجتماعيا. ويبدو أن تحرر الطفل من الاستقطاب لا يتم قبل السابعة حيث ينتقل الطفل من البيت إلى المدرسة. وبصورة عامة، يعتقد الطفل حتى السادسة من أن التفكير يرتبط بحركة الفم وأنه لا يمكن أن نفكر إذا لم يسمع لنا صوت، كأن الصوت هو الفكر بالذات.
التفسير عند الأطفال
ومن المحادثة أو الحوار بين الأطفال ننتقل إلى التفسير، وكيف أن الطفل يستوعب القصص والتفسيرات العلمية التي نشرحها له ومن ثم نطلب منه إعادة التفسير أمام أطفال مثله ... ومن القصص التي استخدمها بياجيه نذكر قصة نيوبيه (Niobé) وهي سيدة كان عندها 12 صبيا و 12 بنتا. التقت مرة بالجنية لتي كان عندها صبي واحد دون بنات. سخرت السيدة من الجنية لأن الجنية ليس عنها إلا صبي واحد. فغضبت الجنية و سمرت السيدة على صخرة. بكت السيدة عشر سنوات. وفي النهاية تحولت إلى صخرة ودموعها التي سالت تحولت إلى ساقية تجري حتى اليوم.
بالإضافة إلى هذه القصص التي تستدعي، عند إعادتها، البط بين أشياء و عناصر مختلفة، هناك الاختبارات أو التفسيرات الميكانيكية بحيث نعرض أمام الطفل رسما يفسر وظيفة الحنفية أو وظيفة السرينج أو المحقنة (Seringue)  وقد دلت النتائج على أن مقدرة الطفل على إعادة القصة أو التفسير العلمي تتطور مع السن واللغة و التفكير.
وهذا التفسير لا ينحصر في الأشياء الميكانيكية أو العملية، فهناك أيضا الأمثال و الحكم التي يعجز عن تفسيرها الطفل و يعتقد بأنه استوعبها و لكن فهمه لها يبقى غامضا قائما على حجم الجملة وعدد الكلمات و ليس على المعنى. وهذا ما يذكرنا بالتراكم و الدمجية عند الطفل .. بحيث لا يعمد إلى تحليل العناصر المتداخلة وإلى المقارنة المنطقية ... و هذا ما يعرف بالتفكير الدمجي أو اللامنطقي... ويطرح بياجيه على الأطفال (7-9 سنوات) بعض الأمثال:
"ذهبت الهرة، رقصت الفئران" بعض الناس يحركون كثيرا و لا يفعلون شيئا . إن الطفل يعتقد إن المعنى واحد في هذين المثلين، لأن الطفل قد فسر المثلين على هواه وربط بين الأشخاص الذين يتحركون كثيرا و الهرة التي تركض وراء الفئران ... ويلاحظ في هذه الأمثلة أن الطفل يفهم الكلمات الواردة في الجملة و لكنه لا يستوعب المعنى العام بصورة واضحة، فهو يعتقد في المثل الأول أن الهرة تركض وراء الفئران ... وهذا يعني أن المركزية الذاتية في التفكير و الإدراك ما تزال قائمة ... وخاصة في القضايا المنطقية.
ان الطفل لا يستطيع أن يحل نفسه مكان الآخر. فالتفكير لديه مرتبط بالذاتية وهو بعيد كل البعد عن المشاركة الاجتماعية، لأن الطفل لا يهتم بإقناع الغير بوجهة نظره، فهو عاجز عن ذلك، وهو بالتالي لا يقدم أي برهان لما يريده أو يقوله. وهذا يعني أن تفكير الطفل يختلف كليا عن تفكيرنا بحيث يعوزه التسلسل المنطقي والموضوعية ... و هذا العجز يظهر أيضا في منطق الطفل وفي استعماله لحروف الوصل و السببية كما سنرى في الصفحات التالية :
(2)     الأنوية والمنطق (الأنوية المنطقية)
وهنا يظهر موضوع التراكم (Juxtaposition)  الذي سنتكلم عنه في هذا الفصل . والتراكم هو عدم القدرة على الحبك و التناغم بين العناصر و الأشياء والأفكار . فالطفل إذن عجز عن إدراك العلاقة القائمة بين العناصر والأجزاء أو بين ظاهرتين أو أكثر . وهذا العجز عن البناء والتركيب هو الصفة الأساسية لذهنية الطفل (التفكير اللامنطقي).
قام بياجيه بدراسات شيقة وطويلة على الحكم والمنطق عند الطفل بحيث أجرى ملاحظات دقيقة على الأطفال في مختلف الأعمار . وقد طلب إليهم استنباط أو إكمال جمل تحتوي على "لأن" أو غيرها من الحروف المشابهة بالاضافة إلى اختبارات العلاقة المنطقية . ومن الجمل التي استعملها بياجيه نذكر مثلا: وقع الرجل عن دراجته لأن ... على الطفل أن يجد النهاية أو السبب لتلك الظاهرة . وقد طبق بياجيه هذه الطريقة من الأسئلة على أربعين طفلا لكل واحد بمفرده، تتراوح أعمارهم بين السادسة والعاشرة . وتركزت الدراسة حول استعمال "لأن" . ومن جهة أخرى، قام بياجيه باستقصاء جماعي وبالطريقة نفسها على 200 من الأطفال تتراوح أعمارهم بين السابعة والتاسعة . ومن المعلوم أن "لأن" تدل على تدل على علاقة سببية بين شيئين أو ظاهرتين أو أكثر ... وهذا يعني أن "لأن" تدل على علاقة منطقية مثل: هذا الحيوان ليس ميت لأنه يتحرك . وتبدو هنا "لأن" وكأنها مرتبطة مع "لماذا" من ناحية العلاقة السببية . مثلا لماذا وقع الرجل عن الدراجة ؟ ومن ناحية التعليل المنطقي: لماذا هذا الحيوان كلب وليس حصانا؟ وهناك أخيرا الارتباط القائم على الدافع . مثلا لماذا لم تذهب معهم؟
والسؤال المطروح الآن : هل الطفل الذي يفشل في هذا النوع من الأسئلة يجل بالفعل الحروف المعنية أم أن تفكيره متأخر؟ يستدل من دراسات بياجيه أن الطفل يتوصل إلى استعمال "لأن" بصورة صحيحة كلما تقدم في السن. وهذا يعني انحسار الأنوية وقدرة الطفل على إدراك العلاقة السببية القائمة بين الأشياء ... وقد توصل بياجيه إلى النتائج التالية :

السن
% استعمال "لأن"
3
1.2
4
1.2
5
2.0
6
2.4
7
6.1

من الملاحظ أن تطور المنطق يتوقف على السن ... اذ كانت النتيجة 2.4% في سن السادسة بينما بلغت النسبة 6.1% في السابعة. وهذا يدل على أهمية السنة السابعة في حياة الطفل النفسية. وهذه السنة هي بدء التفاعل الاجتماعي والتفكير المنطقي عند الطفل. (مرحلة الدخول إلى المدرسة الابتدائية).
ويقول بياجيه بأن وعي الذات يحصل نتيجة الاصطدام مع الآخرين (والمقصود هنا الاصطدام الذهني والاجتماعي). وعلى هذا الأساس يبدأ التفكير عند الطفل بالاتجاه نحو المنطق حوالي السابعة أو الثامنة بحيث أن نسبة النجاح في الاختبارات المذكورة تكون مرتفعة في هذه السن.
إن انحسار الأنوية يبدأ إذن مع عملية التفاعل الاجتماعي أو المركزية الاجتماعية(Sociocentrisme) والخروج من الأنا المحورية إلى الاحتكاك مع الآخرين والاصطدام معهم من الناحية الاجتماعية والذهنية ... وبالرغم من هذا التقدم الحاصل في هذه المرحلة، تبقى هناك أيضا بعض الصعوبات في استعمال "لأن" . فالطفل لا يتوصل في هذه السن وبصورة كاملة إلى الانتقال من الغموض إلى التفكير المنطقي ... فهو يصيب أحيانا ويخطئ أحيانا أخرى في استعمال السببية. وباختصار، يعتقد بياحيه أن مرحلة 7-8 سنوات تدل على انحسار التراكم والغموض . وقد قام باختبار في هذا الشأن على 180 طفلا في مدينة جنيف وقد توصل إلى أن 85% من الأطفال الذين هم في السابعة من العمر قد نجحوا في الاختبار المتعلق باستعمال "لأن" مقابل 95% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين الثامنة والتاسعة ... هذا من الناحية العملية، أما من ناحية الاستدلال المنطقي، فان الأمر يبدو صعبا نوعا ما بالنسبة للطفل. مثلا : هذا الحيوان ليس كلبا لأن ... على الطفل أن يكمل الجملة ويعلل ذلك ببرهان منطقي.
إن الأنوية لا تنحصر إذن في اللغة وفي تصور الطفل للعالم بل في معظم فعالياته، وهي تظهر أيضا و بصورة واضحة عندما يطلب من الطفل اكتشاف علاقة قائمة بين شيئين أو أكثر ... وهنا نضرب مثلا على ذلك "اختبار الأخوة". فإذا طرحنا على الطفل السؤال التالي: كم أخ عندك؟ فانه يقول ثلاثة بسام وفريد وأنا. فهو يدمج نفسه مع الآخرين ولا يتوصل إلى التمييز بينه وبين الآخرين كما ذكرنا في الصفحات السابقة.وقد قام بياجيه بملاحظات عديدة في هذا الشأن وتوصل إلى استخلاص خمسة أنماط من الأجوبة عند الأطفال . وهذا الاختبار أي "اختبار الأخوة" يدل بالطبع على نمو المنطق عند الطفل والقدرة على التمييز بين الأنا والآخرين وكذلك على الربط المنطقي بين شيء وآخر ... إذا سألنا الطفل قبل السابعة أو الثامنة : كم ولد يوجد في عائلتك؟ فانه يقول نحن ولدان ... وهكذا يسقط نفسه من الحساب. وإذا يدل بالطبع على استمرار الأنوية والدمجية. فالطفل عاجز إذن عن إدراك العلاقة المتبادلة (العكسية) القائمة بين الأشياء. فهو يقول نحن ولدان ... انه يحسب إخوته ويسقط نفسه من الحساب كأنه ليس أخا لبقية إخوته . وهكذا يعتقد إنهم ولدان في العائلة وليسوا ثلاثة ... عندي اثنان من الإخوة ونحن اثنان . إن هذا القول يعني أن الطفل عاجز عن الانتقال من العلاقة الأولى إلى العلاقة الثانية أو العكسية :








 
                                         أ                                      ب
ولنذكر هنا بعض الأمثلة التي يسجلها بياجيه من خلال ملاحظاته وتجاربه على الأطفال . راوول (Raoul) طفل له من العمر 4 سنوات و 6 أشهر!
–– هل عندك أخوة ؟
–– نعم. واحد اسمه جيرالد.
–– وجيرالد. هل عنده إخوة؟
–– كلا. أنا وحدي عندي أخ ...
فالأنوية تستمر حتى الثامنة أو التاسعة حسب ملاحظات بياجيه . وهذا يعني أن الطفل لا يستطيع الخروج من ذاته و لا يدرك العالم الخارجي والأشخاص بصورة موضوعية، وأن يضع نفسه مكان الآخرين في علاقة متبادلة أو عكسية . قد يتوصل الطفل إلى إدراك العدد العام لإخوته في العائلة ولكنه يبقى عاجزا عن إدراك العلاقة العكسية . فهو يعرف مثلا أن عنده أخ هو بسام ولكنه لا يدرك أنه هو أيضا أخ بدوره لبسام . فالأنوية قائمة إذن في شخصية الطفل بجميع أبعادها ... في التفكير والمنطق واللغة وتصور العالم الخارجي . ويمكن تلخيص النتائج التي توصل إليها بياجيه بالنسبة لاختبار الأخوة كما يلي :
السن
نسبة النجاح
4-5
19 %
6-7
24
8-9
55
10-11
87
12 وما فوق
100%

عدا ذلك، يبقى الطفل عاجزا عن إدراك المتناقضات في الظاهرة الواحدة . مثلا إذا عرضنا أمام طفل قبل التاسعة من العمر كوبا من الماء و طلبنا إليه : ماذا يحدث إذا أسقطنا حصاة في الكوب؟ فقد يقول: بأن الماء سيرتفع لأن الحصاة ثقيلة ... ولكنه لا يعتقد بارتفاع الماء إذا أسقطنا في المرة الثانية حصاة أصغر من الأولى. وإذا طلبنا منه أيضا أيهما سيؤدي إلى ارتفاع الماء أكثر : الحصاة الصغيرة أو قطعة من الخشب؟ (يمكن أن نعرض هذه الأشياء أمام الطفل) ... نرى بأن الطفل يبقى عاجزا عن إدراك الكمية والوزن والحجم ... وسنرى عندما نتكلم عن اختبارات بياجيه، وخاصة اختبارات المنطق العلائقي، كيف يتطور التفكير عند الطفل ..
(3)الأنوية والحكم الأخلاقي (الأنوية الأخلاقية): إن الأنوية التي تمتاز بها عقلية الطفل تظهر كما قلنا في مختلف فعالياته و تصرفاته وحتى في شعوره الأخلاقي. كيف ينظر الطفل إلى بعض القضايا الأخلاقية المطروحة، مثل ارتكاب الخطأ، الكذب، السرقة، المساواة والعدل ...
أن الشعور الأخلاقي لا يولد مع الطفل بل أنه يتشكل نتيجة امتصاص الطفل للمعايير الأخلاقية والاجتماعية وتكيفه معها ... والطفل في المراحل الأولى يخضع لتأثيرات الوسط العائلي و يتشرب المبادئ والعادات المفروضة عليه ويصبح مفهوم الخير والشر والصالح والطالح مرتبطا بالقيم والعادات العائلية التي تداخلت في سلوكه . وبالرغم من ذلك، هناك مراحل زمنية يتطور خلالها الشعور الأخلاقي عند الطفل. فهو في البداية شعور غامض مغلف بالأنوية والدمجية حتى السابعة أو الثامنة . فالشعور الأخلاقي يعتبر بمثابة قوى رادعة يفرضها الأهل والكبار على الطفل، فهو متأت إذن من الخارج و قائم على مبدأ التهديد والعقاب. فالطفل لا يسرق ليس لأنه يعتبر ذلك عملا مشينا لشخصه بل لأنه يخاف القصاص والعقاب من الأهل ... و من ثم يتداخل هذا الشعور ويصبح الطفل قادرا على تحليل الموقف.
أ‌-الأخطاء المرتكبة
يعرض بياجيه على الطفل مجموعة من القصص يرتكب فيها الطفل بعض الأخطاء، ثم يطلب من الطفل الممتحن أن يعطي أحكامه على الفعل المرتكب. ومن القصص المستخدمة نذكر قصة الفنجان المحطم، وهي أن طفلا (جان) كان في غرفته وقد استدعاه أهله للغداء. فتح باب غرفة الطعام و كان وراء الباب كرسي موجود عليها صينية تحتوي على 15 فنجانا، ولكن الطفل لم يكن على علم بذلك. دخل، فاصطدم بالكرسي ووقعت الفناجين أرضا وتحطمت ...
مقابل هذه القصة، هناك ولد (هنري) أراد أثناء غياب أمه عن البيت أن يأكل الحلوى الموجودة في الخزانة . صعد على الكرسي ومدّ يده ولكنه لم يصل الى الحلوى واصطدمت يده بفنجان وقع على الأرض وتحطّم.
إذ طرحنا على الطفل بعض الأسئلة المتعلقة بهذه القصص من الناحية الأخلاقية، نراه يحكم على الفعل من خلال نتائجه المادية الظاهرة للعيان وليس من خلال الدوافع الداخلية والنفسية ... وهذا حوار أجراه بياحيه مع طفل في السادسة :
–– هل فهمت جيدا هذه القصص؟ نعم . –– ماذا فعل الطفل الأول؟ –– حطم 15 فنجانا . –– والثاني؟ –– حطم فنجانا واحدا . –– لماذا حطم الأول الفناجين؟ بسبب الباب –– والثاني بسبب حركته الفاشلة. –– من أخطأ أكثر؟ –– الأول لأنه حطم 15 فنجانا . –– إذا كنت أنت الأب، من تعاقب أكثر؟ –– الذي كسر 15 فنجانا . –– لماذا كسرها؟ –– بسبب الباب الذي فتحه ولم يكن يقصد ذلك. الخ.
من الملاحظ أن الطفل يحكم على الفعل من خلال نتائجه المادية كما قلنا وليس من خلال الدوافع . فالأول كسر الفناجين دون قصد لأنه لم يكن على علم بالأمر، وبالرغم من ذلك يرى الطفل بأن الأول يستحق عقابا أكثر من الثاني لأن نتيجة الفعل كانت أكبر حجما. ونجد أيضا نفس الأجوبة عند الطفل بالنسبة لقصة الدواة . فالطفل الأول أراد أن يلعب أثناء غياب والده، وقد وقعت بقعة حبر صغيرة على السجادة، والثاني أراد يؤدي خدمة نحو أبيه، إذ رأى الدواة فارغة و أراد أن يملأها، فسقطت عدة بقع من الحبر على السجادة ... إن الطفل يحكم بالعقاب على الثاني أكثر من الأول لأن نتائج فعله كانت أكبر حجما.
هذه الأحكام الأخلاقية التي يطلقها الطفل على الأفعال المذكورة تدل على سيطرة الأنوية التي تنحسر في الثامنة أو التاسعة وما فوق بحيث ينظر الطفل إلى الفعل من خلال القصد أو النية ومن خلال شعوره الداخلي ويؤكد أن الطفل الذي كسر الفنجان الواحد يستحق عقابا أكبر من الطفل الآخر الذي كسر 15 فنجانا من غير قصد ...
ب‌-   السرقة :
كيف يحكم الطفل على السرقة؟ هناك نوعان من الاستجابة. الأولى تقوم على المسؤولية الخارجية والثانية على الشعور الداخلي أو المسؤولية الذاتية. ولنضرب بعض الأمثلة التي استخدمها بياجيه في هذا الشأن.
–– "التقى فريد برفيق له فقير جدا. قال له الرفيق بأنه لم يأكل اليوم لأن ليس عنده شيء . عندئذ دخل فريد إلى الفرن ولكن لم يكن في حوزته المال، فسرق رغيفا في غفلة من صاحب الفرن وانصرف وأعطاه إلى رفيقه ..."
–– طفل سرق أثناء غياب أمه "الملبس" وقد أكل الملبس كله في الخفاء.
إذا طلبنا من الطفل أن يقول : من هو المذنب أكثر في هذه القصص؟ نرى بأن الطفل قبل السادسة يبقى عاجزا عن تحليل هذه القصص والمقارنة فيمل بينها بسبب الاستقطاب الذاتي. وقد دلت تجارب بياجيه على أن الطفل حتى التاسعة يربط الفعل بأسباب مادية خارجية دون أن يأخذ القصد بعين الاعتبار. وبعد التاسعة يرى بأن الطفل يحكم على سارق الملبس بأنه يستحق عقابا أكثر من الأول الذي كان في نيته أن يؤدي مساعدة إلى رفيقه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن مفهوم الطفل عن السرقة يبقى غامضا في السنوات الأولى لأن الطفل لا يدرك بعد مفهوم الملكية، ويعتقد أن كل شيء يمكن أن يكون ملكا له.                    المرجع تطور الطفل عند بياجيه-غسان يعقوب


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire