dimanche 25 mars 2012

نظرية فالون

نظرية فالون



هنري فالون H. WALLON(1879-1962م) هو مؤسس مدرسة باريز لعلم النفس التكويني. اشتغل في ميادين التربية وعلم النفس والطب النفسي. ودرس الفلسفة في المعهد العالي للتربية قبل أن يحصل على شهادة الدكتوراه في الطب عام 1908. ثم عمل معيداً للأستاذ ج. ناجوت في عيادة الطب النفسي في السالبتريير حتى عام 1931. وكان يقوم في نفس الوقت بتدريس علم نفس الطفل في جامعة السوربون(1920-1937). وفي عام 1925 نال شهادة الدكتوراه في علم النفس على أطروحته التي أعدها تحت عنوان "أطوار واضطرابات النمو النفسي-الحركي والحركي عند الطفل". ومنذ عام 1927 عين مديراً لمدرسة المعارف العليا. وظل في هذا المنصب حتى عام 1952. وخلال الأعوام ما بين 1937 و 1949 عمل كأستاذ في قسم علم النفس وتربية الطفل في الكوليج دوفرانس.
وإلى جانب عمله العملي كان فالون يتمتع بمكانة مرموقة في عالم السياسة والمجتمع. فقد شارك بفعالية في المقاومة الوطنية الفرنسية ضد الاحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية. وصار عضواً في اللجنة العليا للجبهة الوطنية. وبعد تحرير مدينة باريز عين أميناً عاماً لوزارة التعليم الوطني ورئيساً للجنة إصلاح التعليم في فرنسا منذ عام 1946.
وعلى الرغم من كثرة المهمات التعليمية والسياسية والاجتماعية- كما هو واضح-، فإن فالون كان يبذل جهداً موازياً في مجال التأليف والنشر. وقد أثمر هذا الجهد عدداً من الكتب والمقالات التي ترجم معظمها إلى عدة لغات عالمية؛ ومن بينها "الطفل العسير"(1925) و "مبادئ علم النفس التطبيقي"(1930) و"مصادر شخصية الطفل"(1934) و"النمو النفسي عند الطفل"(1942) و"من الفعل إلى الفكر"(1942) و"نشأة الفكر عند الطفل"(1945) و"علم النفس المدرسي"(1943). يضاف إلى ذلك إسهامه في تحرير الموسوعة الفرنسية وتأليف الجزء الثامن منها: "الحياة العقلية"(1938)، وكذا تأسيسه لمجلة "طفولة ENFANCE" التي كان مسؤولاً عن تحريرها. وقد نشرت هذه المجلة بعد وفاته مجموعة من مقالاته في عدد خاص(ENFANCE, 1963, NO. 1-2) تحت عنوان "أهداف علم النفس وطرائقه".
بدأ فالون بناءه الفكري بطرح الإشكالية الأساسية القديمة حول العلاقة بين ما هو بيولوجي وما هو نفسي، بين ما هو فردي وما هو اجتماعي في الشخصية. وكخطوة أولى على طريق معالجة هذه الإشكالية يسلم بوجود ظاهرة الوعي عند الإنسان بوصفها جوهراً مختلفاً عن الجسد.
ومن خلال هذه المسلمة تتبدى بوضوح معارضته المبدئية لجميع النظريات التي تنفي وجود الوعي، وتختصر الجوانب النفسية المختلفة في الاستجابات العضلية والتغيرات التي تحدث داخل العضوية نتيجة نشاط أجهزتها، كما هو شأن السلوكيين، أو أرجعوها إلى الارتباطات الفيزيولوجية مثلما اقترح الماديون الميكانيكيون. فعلى الرغم من اعترافه ببعض إيجابيات هؤلاء وأولئك والفوائد التي قدموها للفكر السيكولوجي بشكل خاص، إلا أنه عاب عليهم إنكارهم للنفس، وعجزهم عن متابعة الحركات أو الارتباطات إلى أن تصبح شكلاً من أشكال الوعي.
إن الوعي الذي يسلم فالون بوجوده لا يدخل-بالنسبة له- في باب الحقائق القبلية أو الأزلية أو الجواهر المطلقة التي تسبق الجسد من حيث وجودها في الزمان، بل إنه يتشكل وينمو عقب ولادة الإنسان. ولهذا فإن فالون يرى أن المنهج التكويني هو المنهج الوحيد الذي يمكن الباحث من التعرف على أصول الوعي وتتبع مراحل تطوره وما يؤديه من وظائف.
وفي ضوء تحديد مادة البحث ومنهجه وجد فالون أن من المنطقي والضروري أن نوجه الانتباه نحو دراسة الطفل. ذلك لأن علم نفس الطفل، حسب اعتقاده، يتيح لنا إمكانية دراسة جدلية الوجود الإنساني. وبصرف النظر عن خصوصيات الطفولة ومميزاتها التي يتعين على البحث استخلاصها، فإنها لم تكن –بالنسبة لفالون- في سياق ما نتحدث عنه مادة للدراسة فقط وإنما وسيلة وطريقة في التحليل ضمن إطار علم النفس أيضاً.
كان فالون يقصد بدراسة الطفل وصف وتفسير التغيرات والتحولات والتناقضات التي تتصف بها النفس خلال حركتها الطبيعية الدائمة نحو الأعلى وتفاعلها المستمر مع الواقع الموضوعي. ومن الخطأ، في اعتقاده، أن يؤدي الاعتراف بالنفس أو الوعي إلى دراستهما بذاتهما ولذاتهما خارج إطارهما الزماني والمكاني. فمثل هذا الخطأ وقع فيه أصحاب المذهب المثالي حين زعموا أن ما يقدمه الاستبطان عن حالة الوعي ومستوياته هو صورة حقيقية عن حياتنا الداخلية. وعندما يبرز فالون أهمية تناول الوعي في حركته في الزمان والمكان، فإنه يحذر من تجريد مفهوم الحركية والاستمرارية من مضمونه المادي، والوقوع تحت إغراء التيارات الفلسفية الصوفية. وحجته في ذلك أنه لا وجود لنشاط مطلق "خالص"، وأن ما يوجد هو كائنات تولد وتنشأ وتتطور بحكم البنية العضوية الخاصة بها وتفاعلها مع المحيط الخارجي. فما المتغيرات والتحولات التي تحدد وتعرف بمصطلح التطور سوى وظيفة لتلك البنية العضوية والشروط المادية والثقافية لبيئتها. وخلاصة القول أن فالون يعارض دراسة النفس بذاتها ومن خلال ذاتها، ويؤكد على ضرورة تناولها من خلال علاقتها بالواقع الموضوعي. وإذا ما تعلق الأمر بالإنسان فإنه، تبعاً لذلك، يجب دراسة وعيه انطلاقاً من علاقته العملية بالبيئة، وليس من علاقة الوعي ذاته بها. وتلك هي القضية الأولى التي اعتمد عليها فالون في صياغة نظريته.
أما القضية الثانية فيخصصها فالون لتعيين هوية العلاقة بين الإنسان ووسطه الخارجي التي تضمنتها القضية الأولى. وفي هذا الشأن وجد أن ما يميز هذه العلاقة هو التفاعل بين طرفيها وتأثير كل منهما على الآخر. ولعله أراد من وراء هذا الوصف أن يلفت الانتباه نحو النشاط الاستجابي الذي يرد به الفرد على المنبهات الخارجية، والذي يؤلف مصدر الظواهر النفسية. فالتغيرات التي تحدث في البيئة الخارجية تستثير ردود أفعال العضوية وتدفعها إلى القيام بحركات وأفعال مناسبة مما يؤدي في المحصلة إلى ظهور أشكال جديدة من الوعي.
إن فالون، إذ يطرح رؤيته للعلاقة التفاعلية بين الفرد والوسط الذي يعيش فيه، إنما يسجل اعتراضه على التصورات الخاطئة التي تحفل بها الفلسفة وعلم النفس. فقد ميزت هذه التصورات المذهب الحسي وعلم النفس الارتباطي وطبعتها بالطابع المثالي. وهذا ما يتجلى في اعتماد الحسيين على أعضاء الحس ونظرتهم إليها على أنها المصدر الوحيد للبناء النفسي برمته وفصلهم النشاط الحسي عن الواقع. ويتجلى كذلك عبر تجزئة علماء النفس الارتباطيين للوعي إلى عناصر ثابتة وأشكال لا تتغير. فتحولت الشخصية على أيديهم إلى جزيئات بسيطة من الحركات والوعي إلى مجموعة من الاستجابات الآلية.
ولم يتوقف فالون عند حدود رفض كل محاولة لإرجاع بنية الشخصية إلى مجموعة من الوحدات الأولية الساكنة، بل امتد موقفه الانتقادي ليطال المبدأ الذي وضعه برغسون، أحد أساتذته. ووفقاً لهذا المبدأ فإن جميع الكائنات الحية تحمل طاقة حيوية تمد الوعي بمقومات الوحدة والقدرة على الفعل. لقد ظن برغسون أنّه بمبدأ "الطاقة الحيوية" يتجاوز العثرات والنقائص التي ميزت الاتجاه الارتباطي والفلسفة الميتافيزيائية. ولكنه، في الواقع، لم يستطع الخروج من دائرة التأملات الصوفية التي فصلت الوعي عن شروطه الذاتية والموضوعية. وبقي "حدسه" معزولاً عن الواقع الموضوعي، حين تناوله لذاته وجرده عن النشاط العملي للفرد. فتأكيد برغسون على أن الإنسان ذاته لا يدرك أسباب ظهور الأفكار الحدسية في وعيه هو مصادرة لأي مسعى أو إمكانية للتعرف على أي شيء يمت لهذه القوة اللاواعية واللاعقلية بصلة.
ومما يزيد من موقف فالون، الذي نحن بصدد عرضه، وضوحاً هو إلحاح صاحبه على ضرورة الكشف عن العوامل المحركة للنشاط والتي رآها متجسدة في التناقضات والصراعات القائمة بين النفس والواقع الموضوعي. إن القيام بهذه المهمة يعني-بالنسبة له- تمكين الباحث من الوقوف على العلاقة الجدلية بين الفرد ومحيطه الخارجي التي تبدو النفس من خلالها كحل لتلك التناقضات والصراعات وشكل من أشكال تجاوزها.
ومن هذه الفكرة ينتقل فالون إلى طرح القضية الثالثة التي تبرز حرصه على معرفة مكامن التناقضات والصراعات في النمو النفسي وكيفيات تجاوزها. وللوصول إلى ذلك يقترح طريقة لا يجد مناصاً من اتباعها والتمسك بها، وهي النظر إلى النفس في صيرورتها وتكونها وتطورها.
ذلك لأنها تستجيب لأحد أهم شروط المنهج التكويني الذي يفرض على البحث أن لا يكتفي بتتبع النمو النفسي وعرض مراحله، بل ويحمله، زيادة على ذلك، مسؤولية تقييمها ومقارنتها وتقدير الفروق النوعية بينها. وعلى أساس هذه النظرة أقام فالون نشاطه النظري والتجريبي، وحذا حذوه تلاميذه ومساعدوه.
ومن نافلة القول إن فالون لم يتناول هذه القضايا(المبادئ) الأساسية بصورة منفصلة وإنما كانت-بالنسبة له- كلاً متكاملاً يجسد المدخل المادي الجدلي في دراسة النفس. ولعلنا نجد عند مراجعتنا المتأنية لهذه القضايا ووضعها بعضها بجانب البعض الآخر في زاوية نظر واحدة أن كل واحدة منها تجيء لتضفي على سواها مزيداً من الدقة والتحديد. فحينما يحاول فالون أن يطبق المبدأ الثالث ويدرس النفس ويتتبع تاريخها بدءاً من تجلياتها الأولى، فإنه ينطلق في الوقت ذاته من المبدأ الأول ويعتمد عليه. وكأنه من خلال عمله بالمبدأ الثالث يتوجه إلى المبدأ الأول ليتفحصه ويدقق فيه
وليس كلامنا هذا على سبيل المثال أو من باب الافتراض. وإنما نرصد به شريحة من نشاط فالون. ففي دراسته للنفس البشرية لجأ إلى مقارنة نمو الذكاء الحيواني بتطور التفكير عند الإنسان البدائي ونمو القدرات العقلية عند الطفل. وقد أدت به ملاحظاته وتحليله لنتائج عدد من الدراسات التي أجراها بعض العلماء إلى القول بأن هناك فرقاً نوعياً بين ذكاء الحيوان والنشاط الذهني عند الإنسان الراشد. ويرجع هذا الفرق، في نظره، إلى الاختلاف بين بيئة الحيوان وبيئة الإنسان والعلاقات التي تربط بين كل من الحيوان والإنسان وبيئته. فبينما يتشكل السلوك الحيواني في ظل العلاقات المتبادلة مع الأشياء الفيزيائية والتعامل الحسي المباشر والآني معها، يتكون النشاط النفسي عند الإنسان في البيئة الاجتماعية بكل ما يتطلبه التفاعل معها من رموز وإشارات. وفي هذا المقام يطرح فالون الحتمية المزدوجة كحل للتناقض الرئيسي المطروح بين العضوية والمجتمع. وتتمثل هذه الحتمية في النظرة إلى الطفل الإنساني منذ لحظة ولادته ككائن بيولوجي واجتماعي في آن معاً. وإذا لم تكن ثمة مشكلة يثيرها القول بالعلاقة السببية بين سلوك الوليد وبنيته العضوية، فما عسى أن يكون رد فعل فالون على الاعتراضات على أطروحته حول الجانب الاجتماعي للوليد؟ إنه يحيلنا إلى التشريح المقارن ليبين أوجه التباين بين تركيب الدماغ عند الإنسان ونظيره عند الحيوان، ويبرز تلك المناطق من الدماغ الإنساني، كمنطقة الكلام، التي تفترض الوجود الاجتماعي، وتجعل الطفل الإنساني كائناً اجتماعياً. كما يشير في هذا الصدد إلى جاهزية دماغ الحيوان لأداء معظم وظائفه عقب الولادة مباشرة، الأمر الذي يساعد الوليد الحيواني على إشباع حاجاته بنفسه مع قدر ضئيل من حماية الكبار ورعايتهم. وبالمقابل تكون الجملة العصبية عند الوليد الإنساني ضعيفة وعاجزة عن القيام بوظائفها. ويستغرق تجاوز هذا العجز سنوات طويلة من التنشئة الاجتماعية. وهذا هو ما عناه فالون بقولـه إن الفرد كائن اجتماعي ليس بنتيجة الشروط الخارجية، ولكن بسبب الضرورة الداخلية، العملية.
ويخلص فالون في نهاية هذه المقارنة الجزئية إلى أن نضج الجهاز العصبي هو الشرط المادي لظهور الوعي عند الطفل الإنساني. غير أن هذا النضج لا يعتبر، برأيه، سبباً بحد ذاته، وإنما هو، بدوره، نتيجة التفاعل الدائم بين الطفل والبيئة الذي تمثله الأفعال الحركية والحسية والانفعالية والكلامية والعقلية التي يقوم بها الطرف الأول إزاء المشكلات التي يطرحها الطرف الثاني.
إن احتكاك الطفل بصورة مستمرة مع الآخرين ومع الأشياء الخارجية يمكنه من تكوين صورة عن ذاته وعن عناصر المحيط وموضوعاته. وهنا يطرح فالون إشكالية التشكل التدريجي للوعي الإنساني. وهي الإشكالية التي وجد فريق من العلماء أن حلها يكمن في الاستدخال. أي في انتقال الأفعال المادية الخارجية شيئاً فشيئاً إلى الداخل وتحولها في الأخير إلى عمليات نفسية. في حين فسر فريق آخر الأمر بتكون صور ذهنية عن الموضوعات والتعامل مع تلك الصور في غياب موضوعاتها.
أما فالون فإنه يرفض أن يفسر تشكل الوعي بهذا الشكل المبسط. ويرى أنّ أي حل أو تفسير سوف لن يكون مقبولاً ما لم يتضمن الإشارة إلى مجموع الخطط الحركية ودورها في نشوء الوعي.
ومن هذا المنطلق يقترح حلاً جديداً للإشكالية المطروحة، وهو أن خطط الأفعال التصورية هي التي تؤلف خطط الوعي عند الإنسان ومجال نشاطه الذهني. ولكن متى، وكيف تظهر هذه الأفعال؟ وللإجابة على هذا السؤال يمضي فالون في مقارناته. ومن خلالها يقرر أن الذكاء العملي أو الذكاء الحسي- الحركي ليسا بحاجة إلى أفعال على مستوى التصور، لأنهما يمكنان الحيوان أو الطفل الصغير من التكيف مع العالم الخارجي. وما نلاحظه من تصرفات ذكية تصدر عنهما لا يتعدى نطاق هذه الوظيفة. فهذه التصرفات لا تتوجه إلى المعرفة بقدر ما تسعى إلى أهداف محسوسة ونافعة ومباشرة. وللدلالة على حصائل السلوك الذكي الذي يصدر عن الكائنات الحية الراقية استخدم فالون مفهوم "الحدس" مقابل "المعرفة" التي يتوصل إليها الإنسان بفضل نشاطه الذهني. وقبل أن يضع هذا المفهوم في مكانه بين الأدوات العلمية الأخرى أخضعه إلى عملية "تكييف" مع نظريته المادية، وخلصه من كل ما علق به من مدلولات أو معاني مثالية. فصار يعني نتائج الأفعال الحسية- الحركية السابقة، ويدل على شكل أولي وبسيط وخاص من أشكال المعرفة الذي لم تظهر فيه بعد معالم الحدود بين الذات والموضوع.
ومن هذه الزاوية رأى فالون أن من غير المجدي البحث عن مصدر تكون التصورات في الأفعال الحسية- الحركية. فمثل هذه التصورات التي يصنفها ضمن الأشكال الراقية من النشاط النفسي هي خاصية الإنسان وحده. ويرتبط تشكلها بالتناقض بين العضوية والعالم الخارجي الذي تعجز الأفعال الفطرية والانعكاسية البسيطة عن حله. ولذا فإن ظهور مستويات نفسية عليا يقترن، في اعتقاده، بتكون أشكال جديدة معقدة من النشاط التي ترتقي بعلاقة الفرد مع محيطه وتجعلها أكثر دينامية وتعقيداً. ويعتبر المحاكاة أحد أهم هذه الأشكال.
إن هذا الشكل من النشاط، أي المحاكاة، يدخل في نظرية فالون ضمن إطار نشاط أوسع وأشمل هو النشاط الاجتماعي العملي. فبعد الولادة بعشرة أسابيع تقريباً يبدأ الطفل بالتعبير عن حالته النفسية الإيجابية بالابتسامة أو الضحكة تجاه مداعبة الكبار له. ويتعاظم دور هذه الاستجابات الانفعالية حتى الشهر السادس من العمر مع غياب الاستجابات الحسية- الحركية النامية، حيث تتحول إلى وسيلة ضرورية لتكيف الطفل مع العالم الخارجي، وشرط لازم للنشاط المادي للطفل. وبفضلها يصبح بإمكانه التعامل مع الأشياء، وعن طريقها يطور إدراكه وحركاته.
ومع نمو الطفل يتخذ نشاطه الاجتماعي طابعاً أكثر تعقيداً يتبدى في محاولاته لأن يكون نسخة عن النموذج الخارجي. ويؤدي هذا الشكل المتقدم من المحاكاة إلى نشوء الصور الذهنية لدى الطفل. وقد أكد فالون على أهمية المحاكاة في تكون التصورات والتفكير بقوله: "لا ريب في أن النشاطات التي تتسع في المحاكاة وتجري في المخيلة… تقابل الارتباطات المباشرة والمستمرة للتفاعل بين الكائن الحي وبيئته بنمط، آخر من الفعل الذي يبنى وفقاً لصورة الأشياء، ويتم في التصور والفكر كونه يتحول إلى صورة الأشياء"(الاتجاهات الأساسية…، 1966، 237).
وبما أن ظهور المحاكاة يتوقف على تفاعل الطفل مع غيره من الناس وتعاونه معهم، فإن الأفعال التي تدخل في إطار هذا النشاط تتوجه في بادئ الأمر نحو أفعال الآخرين. ولذا فإن الطفل عادة ما يلجأ إلى تقليد أفعال الناس الذين يحبهم، كما لو أنه ينزع إلى التماهي معهم. ومن جراء المحاولات التي يبذلها للإتيان بأفعال مماثلة لأفعال الآخرين يتكشف أمامه الفرق بينه وبين النموذج الذي يود أن يكونه. وفي سياق هذه المقارنات التي يعقدها بين ما يصدر عنه وبين ما يصدر عن الآخر والنتائج التي تسفر عنها تتكون الأرضية المناسبة ليميز ذاته من سواه وليضعها مقابل الآخر.
ومن هذا المستوى من المحاكاة ينتقل الطفل إلى مستوى آخر، وهو محاكاة الموضوعات الخارجية. وهنا يجد فالون أن أفعال التقليد التي يقوم بها الطفل في هذا المستوى لا تتم بمعزل عن أفعال المستوى السابق، بل إنها تقوم عليها وتنمو في تربتها. ويتحدث في هذا السياق عن أزمة نهاية المرحلة الحسية- الحركية(سنتان ونصف- ثلاث سنوات) أو كما يسميها "أزمة الوعي". حيث يبدأ الطفل بوضع نفسه مقابل الآخرين، ويبدي رغبة شديدة في أن يفعل كل شيء بنفسه، ويرفض مساعدة الكبار وتدخلاتهم في أفعاله معبراً عن ذلك بمختلف الاستجابات الحركية والكلامية السلبية. كما يصدر، في الوقت ذاته، إيماءات وحركات في غياب الأشياء والموضوعات المادية كما لو أنها حاضرة، يستعملها أو يلعب بها. ويعتبر فالون هذه الأفعال مؤشراً على انفصال الذات عن الموضوع وبداية ظهور الوعي.
إن ما قلناه عن المحاكاة لا يمس سوى الجانب الوصفي مما جاء به فالون. ومن الطبيعي أن نمضي في عرض الجانب الآخر أو الخطوة الثانية التي قام بها من أجل تحليل هذا النشاط والتعرف على آلياته. فبعد أن شدد على المناخ الاجتماعي في تكون أفعال التقليد وتطورها أشار إلى وجود نوع من النشاط يمهد لها ويعدها للظهور. ويتمثل هذا النشاط في مماثلة الاستجابات الحسية الحركية الصادرة عن الطفل للمنبهات الخارجية التي يستقبلها. وهذا ما يلاحظ لدى تحريك الطفل لعضلاته الصوتية، مثلاً، حينما يسمع أغنية أو لحناً موسيقياً ما في محاولة لتقليد عناصرهما. كما يلاحظ أيضاً في حركة عضلات الجهاز البصري عندما ينظر إلى شيء ما ويتأمله، وفي تلمسه للعبة أو أداة حالما تقع بين يديه. ففي جميع هذه الحالات يبدي الطفل فاعلية إيجابية دون أن تظهر استجاباته للعيان. ويرى فالون أن هذه الفاعلية لا تتوقف على وجود المنبه، وإنما تستمر حتى بعد توقفه أو غيابه. فالطفل يردد الأنشودة التي سمعها منذ أيام، بل وأسابيع بصورة دائمة، إلى درجة أنه يتمكن من استرجاعها بعد هذا الفاصل الزمني الطويل نسبياً.
ويتوقف فالون عند هذه النقطة قليلاً لينفي إمكانية الفصل بين الذات والموضوع عن التقليد الآلي لخصائص الوقائع الخارجية. ويعلل موقفه بأن فعلاً كهذا لا يرقى إلى مستوى المحاكاة الحقيقية. ولذا فإنه غير قادر على تكون التصور الحقيقي.
ولا يفوتنا، ونحن نتكلم عن علاقة المحاكاة والتصور الذي تفرزه، أن نشير إلى الطابع الجدلي الذي يخلعه فالون عليها. فقد رأى أن تشكل صورة الموضوع يستوجب خضوع عناصره المادية إلى آلية المحاكاة في تعاقب وتسلسل محددين. وهذا يعني أن الطفل حينما يلقى نفسه أمام موضوع بأكمله، فإن عليه أن يترجم معية الانطباع هذه إلى سلسلة من الأفعال المتعاقبة، وأن يعزل من تلك الصلات والارتباطات القائمة بين أجزائها ما يكفل التوزع السليم والمنتظم للموضوع. وينبغي على ما كان موزعاً أو منتشراً في الزمان أثناء التقليد أن يصبح في التصور خطة كلية ومتزامنة للمادة.
وقد حدد فالون هذا التحول من الانتشار إلى التجمع، ومن التعاقب إلى المعية بأنه خاصية الانتقال من المحاكاة إلى التصور، والقاعدة التي يبنى عليها التفكير الإنساني. وتمثل هذه الجدلية، في نظره، نموذجاً بسيطاً للتناقض بين مستوى التفكير الشكلي والتفكير المنطقي الاستدلالي. ويتألف المستوى الأول من مجموعة من التصورات المترابطة فيما بينها ارتباطاً وثيقاً. وفي الوقت الذي تكون فيه هذه التصورات عبارة عن صور إجمالية أو خطط متزامنة للأشياء والوقائع في التفكير الشكلي، فإن عليها أن تنتشر وتتالى على مستوى التفكير المنطقي الاستدلالي. إلا أن هذا الانتقال من الشكل إلى الاستدلال لا يحدث، حسب ما يرى فالون، إلا عبر ارتباط التصور بالكلام. فعن طريق العلاقة بالكلام يصبح انتشار التصور في الزمان ممكناً.
لقد لاقت نظرية فالون صدىً إيجابياً عند عدد من علماء النفس الفرنسيين، أمثال موريس دوبيس M. DEBIS ورينيه زازو R. ZAZZO وفيليب مالريو PH. MALRIEU وجان بول فرنان P. J. VERNAN وإ. ميرسون وغيرهم ممن انطلقوا من مبادئ المادية الجدلية، وعملوا على تطويرها في اتجاهات مختلفة. وقد عرف علم النفس العام وعلم نفس النمو وعلم النفس التربوي وعلم نفس الشخصية نهوضاً ملحوظاً بفضل نشاطاتهم النظرية والميدانية التي عالجوا فيها مشكلات سيكولوجية هامة، كنشاط اللعب ونشأة وتطور الإدراك والانفعال والكلام والتخيل والتفكير خلال المراحل العمرية المتعاقبة ودور المجتمع ومؤسساته في ذلك. كما كان لهم إسهامات فاعلة ومؤثرة في الحوارات الدائرة بين ممثلي النظريات والاتجاهات السيكولوجية، ولا سيما الفرويدية ونظريات التحليل النفسي الجديدة ونظرية بياجيه.
إننا وإن عرضنا نظرية فالون بوضعها النهائي ضمن الإطار المادي الجدلي فما ذلك إلا توخيا للاختصار وتفادياً للدخول في تفصيلات لا نجد في إيرادها نفعاً كبيراً. وبهذا نكون قد قصدنا بكلامنا المرحلة الأخيرة من نشاط هذا العالم والتي بدأت في الثلاثينيات، وخلالها نضجت توجهاته الفلسفية الماركسية، وعرفت سبيلها إلى التطبيق السيكولوجي. ذلك لأن أفكاره في الأطوار الأولى من عمله العلمي وحتى بداية الثلاثينيات لم تكن لتعتمد بعد على قوانين الجدل المادي بقدر ما كانت تحمل طابعاً مادياً آلياً.
ومع أخذ هذه الملاحظة بالاعتبار يمكننا القول بأن نظرية فالون لم تكن المحاولة الفرنسية الأولى التي اتخذت من قوانين الفلسفة الماركسية أساساً لها في إقامة نظرية في علم النفس. حيث سبقتها محاولة جورج بوليتزر
G. politzer(1903-1942م).
وبوليتزر هو أحد الأعضاء النشيطين الذين أنشأوا جامعة شعبية في مدينة باريز. وفيها ألقى سلسلة من المحاضرات حول أصول الفلسفة الماركسية. وكان أول من تصدى لمهمة وضع نظرية نفسية بالاعتماد على الفلسفة الماركسية خارج الاتحاد السوفيتي.
وفي ضوء هذه المبادئ تناول عدداً من النظريات النفسية التي كانت معروفة آنذاك نقداً وتحليلاً. فبين أخطاءها ونقائصها وضعف مردوديتها. ومن بينها "حدسية" برغسون والتحليل النفسي والاستبطانية والسلوكية. وهاجم المحاولات الرامية إلى التوفيق بين الماركسية والفرويدية. ويعتبر بوليتزر صاحب فكرة إنشاء علم نفس جديد تحت اسم "علم النفس الواقعي". ولاستقطاب الأقلام والأفكار حول فكرته أسس عام 1929 "مجلة علم النفس الواقعي"([1]*). وأضحت هذه المجلة إحدى وسائله لنشر تصوراته حول موضوع العلم الجديد، والذي رآه متمثلاً في دراسة الإنسان من خلال النشاط.
وتكمن الفكرة الأساسية التي جاء بها بوليتزر في تحول علم النفس من دراسة الظواهر النفسية في البيئة التجريبية المصطنعة إلى دراستها في الواقع اليومي للإنسان. كتب يقول: "… إن مادة علم النفس هي الوقائع الإنسانية التي يمكن أن يكون الإنسان وحده ذاتاً لها، كيما يوضع، بالتالي، مقابل العمليات، وليصبح علم النفس علماً يدرس الإنسان الذي يعمل لا العضلة التي تتقلص"(بوليتزر، 1980، 304). ومن أجل ذلك يتوجه بوليتزر إلى المادية الجدلية والتاريخية.
وتبعاً لقوانينها يرى أن الوعي الإنساني هو نتاج النشاط المادي الذي يمارسه أفراد المجتمع ضمن شبكة من العلاقات الاجتماعية التاريخية الموضوعية المحددة.
وعلى هذا النحو يكون بوليتزر قد كشف عن إمكانية تطبيق قوانين المادية الجدلية في ميدان الدراسات النفسية. ومهد، بعمله، الطريق أمام فالون وغيره من علماء النفس الفرنسيين.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire